رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالناصر والسودان




كان شهر يناير ٢٠١٨ مناسبة للاحتفال بالذكرى المئوية لميلاد الرئيس والزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وجرى حوار عن بُعد بين الناصريين، والجانب الآخر المضاد لكل ما فعله جمال عبدالناصر، فى محاولة لتصيد ما يرونه نقاط ضعف فى السياسة التى اتبعها جمال عبدالناصر.
لكنهم لا يذكرون أنه كان هناك رجال يتقاسمون السلطة مع جمال عبدالناصر، وهم من عرفوا فى البداية بأنهم أعضاء مجلس قيادة الثورة ثم انفصل بعضهم عن المجلس، ولكنهم ظلوا شخصيات لها دورها فى تسيير الأمور فى مصر، مثل الصاغ صلاح والسيد خالد محيى الدين فى أعقاب أحداث مارس عام ١٩٥٤، كما تولى أنور السادات عمله فى فترة بجريدة الجمهورية وفى هيئة التحرير ثم فى الاتحاد القومى ثم وكيلًا لمجلس الأمة، ثم رئيسًا لمجلس الأمة، وهكذا. المطلوب هو التنبيه إلى أن البعض كان فى المسئولية وله نصيبه منها.
نعود إلى الباحثين عن نقاط الضعف فى سياسة الثورة وجمال عبدالناصر باعتباره كان صاحب التأثير الأكبر فى مجلس قيادة الثورة، ثم باعتباره رئيسًا للجمهورية سواء جمهورية مصر من يونيو ١٩٥٦ إلى فبراير ١٩٥٨، ثم الجمهورية العربية المتحدة من فبراير ١٩٥٨ لحين وفاته فى ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠. وما لفت انتباهى خلال الفترة الأخيرة بما فيها ذكرى مئوية ولادته، هو تكرار أن جمال عبدالناصر قد أضاع السودان، وكثيرون كرروا ورددوا أن مصر والسودان كانتا دولة واحدة، وأن الملك قبل الثورة كان ملك مصر والسودان، وأن جمال عبدالناصر قد فرط فى تبعية السودان لمصر.
والحقيقة أن الأمور كانت مختلفة تمامًا، فالواقع أن مصر كانت جزءًا من الإمبراطورية العثمانية حتى مع احتلال بريطانيا لمصر عام ١٨٨٢، إلى أن أعلنت بريطانيا فرض الحماية على مصر مع اندلاع الحرب العالمية الأولى. قبل ذلك وقعت الحكومتان المصرية والبريطانية فى يناير ١٨٩٩ على اتفاقية تقضى بالسيادة على السودان سُمى «السودان الإنجليزى المصرى» عرفت باتفاقية كرومر - بطرس. اعترفت الاتفاقية بـ«الجهود المشتركة» ماليًا وعسكريًا التى قادت إلى فتح السودان. وبالاعتراف بالحقوق البريطانية فى السودان المبنية على «حق الفتح». وعليه يرفع العلمان البريطانى والمصرى معًا فى السودان. وقضت الاتفاقية بترشيح حاكم عام من قِبل بريطانيا على أن يعين بمرسوم ملكى مصرى. وللحاكم العام كل السلطات التشريعية والمالية على البلاد. من الناحية العملية جعلت الاتفاقية السودان دولة مستقلة تحت إدارة الموظفين البريطانيين يعاونهم صغار الموظفين المصريين. عارض المصريون الوطنيون المعاهدة بشدة لاعتقادهم أن الخديو قد تنازل عن السيادة المصرية على السودان البريطانى.
بعد ثورة عام ١٩١٩ فى مصر غيّر السلطان لقبه إلى «ملك مصر» بدلًا من «ملك مصر والسودان» فى دلالة رمزية على إسقاط مطالباته بالسيادة على السودان بضغط بريطانى. استمر تمركز عدد من الوحدات العسكرية المصرية فى السودان حتى سحبها بعد اغتيال السير «لى ستاك»، الحاكم العام للسودان فى القاهرة، حيث أمهلت بريطانيا مصر ٢٤ ساعة لسحب قواتها وموظفيها من السودان وأخمدت حركة عسكرية سودانية محدودة قامت بها الكتيبة الحادية عشرة السودانية، وهى الأحداث التى عرفت فى السودان بثورة ١٩٢٤.
بعد ثورة ١٩٢٥ لم يعد لمصر إلا النفوذ الاسمى الذى يمثله رفع علمها فى السودان، خصوصا بعد تكوين قوة دفاع السودان فى ١٧ يناير ١٩٢٥ لتحل محل القوات المصرية فى الدفاع عن السودان. وانحصر تمثيلها فى السودان بمكاتب الرى المصرى لإدارة خزان جبل الأولياء وجمع البيانات عن النيل. نظريًا استمرت معاهدة ١٨٩٩ بلا تغيير حتى استبدلت بمعاهدة ١٩٣٦ بين شريكى الحكم. وظل الوضع هكذا لحين بداية خمسينيات القرن العشرين، حينما اتخذ مجلس النواب المصرى قرارًا بإعادة لقب ملك مصر والسودان دون تغيير على أرض الواقع، ومع ثورة يوليو عملت الثورة على عودة الاتحاد المصرى وفقًا لشعار «وحدة وادى النيل» السائد فى ذلك الوقت مع استئناف المفاوضات حول الوضع فى السودان، وكُلف اللواء محمد نجيب بملف السودان.
وقد بذلت الثورة جهدًا كبيرًا لإقناع السودانيين بالمحافظة على الوحدة مع مصر، ولكن الواقع أن السودانيين انتهزوا فرصة طرح بريطانيا فكرة استفتاء السودانيين بين الاستقلال والوحدة مع مصر، ليفضلوا الاستقلال، ولم يكن من المنطقى أن تعمل مصر على إرغام السودانيين على الاتحاد مع مصر، وفى وجود الجهود البريطانية فى ذلك الوقت، ولكننا فرحنا بجلاء بريطانيا عن السودان.. هكذا لم يكن السودان معنا وضيعناه، وكان ملك مصر والسودان لا يملك مترًا فى السودان، ولم يقم مسئول كبير مصرى بزيارة السودان منذ الاحتلال البريطانى على الأقل.