رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكايات الجنوبي: «موسم الهجرة إلى الشمال» أفضل من «أولاد حارتنا»

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

لم يكن حصوله على ٣ جوائز خلال سنة واحدة «١٩٧١»، فى مجالى القصة والرواية، إلا اعترافًا بتفرده فى الكتابة، وامتلاكه أسلوبًا نادرًا خاصًا به، يمكن اعتباره «ماركة مسجلة» باسمه، ولعل ذلك ما جعل الناقد الكبير رجاء النقاش يكتب عن روايته «سلمى الأسوانية»: «تكشف عالمًا مغايرًا لم نكن نعرف عنه شيئًا فى الرواية المصرية»، ودفع يوسف الشارونى ليصفه بأنه «صاحب مشروع روائى نقدى».

هو الروائى والقاص الجنوبى عبدالوهاب الأسوانى، الحاصل على ١١ جائزة مصرية وعربية، من بينها المركز الأول فى ٥ مسابقات للقصة، فضلًا عن جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب عن روايته «النمل الأبيض» عام ١٩٩٨، والدولة التقديرية فى الآداب عام ٢٠١١.

«الدستور» شاركت الأديب الكبير الاحتفال بعيد ميلاده الـ٨٤، وفتحت معه صندوق حكايات المكان والزمان، بدءًا من «جزيرة المنصورية» التابعة لمركز «دراو» بمحافظة أسوان، حيث مسقط رأسه ومحور انطلاق عالمه الروائى، مرورًا بكنزه المفقود الإسكندرية، وصولًا إلى القاهرة حيث مقر إقامته ومعاناته.

والدى اعتبر كتابتى «صياعة» ثم تباهى بظهورى بالصحف وأحببنا عبدالناصر بسبب «مهازل» السادات
دائمًا ما أرى أن السنوات الأولى هى الأقوى تأثيرًا على الإنسان، بحكم اكتسابك «التجارب الأولى» منها، ومهما تعددت الأماكن التى ستمر بها فى حياتك، ستكتب عن طفولتك، وحين تكبر قد تتغير المسائل، لكن تظل الشخصيات التى عرفتها فى الطفولة معك، وستشكل عالمك الروائى، وفى ذلك يقول «ماركيز»: «الطفولة مخزن الروائى».
لذا، فإن كل الشخصيات التى رسمتها تعرفت عليها فى طفولتى باستثناءات بسيطة جدا، ما يعنى أن نشأتى فى أسوان كانت سببًا مباشرًا فى أن تنطق قصصى ورواياتى بقضايا تتعلق بالجنوب، ولم أكتب سوى رواية وحيدة قصيرة عن الإسكندرية والقاهرة بعنوان «ابتسامة غير مفقودة»، ثم رواية تحت الطبع بعنوان «إمبراطورية حمدان»، تدور ما بين الإسكندرية والقاهرة وأسوان.

وبالعودة إلى هذه السنوات الأولى، عملت مع والدى فى التجارة، إذ كان يملك محل جملة لبيع المياه الغازية فى الإسكندرية، كنا نوزع من خلاله على تجار التجزئة، وللبيوت أيضًا، وللعلم فإن التجارة تزيد من ثرائك النفسى، وتعمق معرفتك بالناس، وتفتح لك دواخلهم لتفهم تمامًا معنى الطبيعة البشرية.

ومع التجارة، كانت هناك عوامل أخرى أكسبتنى تجارب وخبرات، لكن بشكل عام لم يكن أبى يقبل بكونى كاتبًا.. كان يريدنى أن أعمل بالتجارة فقط، ويعتبر ما أكتبه «صِياعة»، ما اضطرنى لتثقيف نفسى بنفسى.. تمامًا مثل «العقاد»، وقد ساعدنى على ذلك كثيرون، منهم الشيخ إبراهيم السنى.

والحقيقة أن الصعيد «مثبط»، فلا يقتنعون إلا بنجاحك.. أنا عانيت من أهلى والجو المحيط بنا، وذات مرة قال لى أبى: «حكيت للخواجة جورج عن حالتك، فقال لى لا يصح هذا الكلام.. لا تجعل ابنك يمشى فى طريق الكتابة».

«جورج» هذا كان يملك محلًا للأحذية، فقلت لأبى: «عم جورج يفهم فى الأحذية فقط»، لكنه ظل على رأيه، حتى رأى قصصى فى الصحف وعليها صورى، فأصبح يتباهى بها، ويقول: «ولدى صوره بتطلع فى الجرايد».

أتذكر أيضًا فترة تجنيدى فى الجيش عام ١٩٥٤.. إذ كنت كاتبًا لرئيس القضاء العسكرى، وأكتب الجلسات بـ«العامية»، وهذا أفادنى كثيرًا، لأننى تعرفت على «العامية» كلغة سلسة ومراوغة، كما استفدت من فترة التجنيد بصفة عامة، فأنت تشاهد الشخوص وترى روايات تمشى على الأرض، لذا أمدتنى تلك الفترة بالكثير من الخبرات، وهناك ضابط خلال فترة التجنيد نصحنى بأن أكتب عن مجتمع أسوان، وكانت من أفضل النصائح لى. نشرت الكثير من القصص فى المجلات الأدبية، وتعرفت ببعض الأدباء السكندريين، وكانت الندوات كأنها جامعة، كنت أذهب إلى ٧ ندوات أسبوعيًا، كنت شغوفًا بعالم الأدب، ومن هذه الندوات: «ندوة القهوة التجارية، وندوة قصر الأنفوشى، وندوة قصر الحرية، وندوة الأدب العربى»، وغيرها الكثير.

كنا معارضين لـ«عبدالناصر» على اعتبار أنه أزاح محمد نجيب، لكننا أدركنا الحقيقة فيما بعد، وأحببناه مع قرارات «التأميم» وخروج آخر جنود الاحتلال الإنجليزى من مصر، والقضاء على الإقطاع.

فى فترة «عبدالناصر» كانت أجهزة الدولة مسخرة للقاعدة العريضة، والعمال والفلاحون لم يعودوا معرضين للإهانة، فى عهد «السادات»، حدثت مهازل «الانفتاح.. السداح مداح»، والاختراق الأمريكى لمصر، وانتشار التطرف والحوادث الطائفية، وشق الأمة المصرية، لذلك، أحببنا عبدالناصر أكثر بعدما رأينا أفعال خلفه أنور السادات

يحيى حقى منحنى التفرغ بعد قراءته «سلمى الأسوانية»
وقال لى: «عيشتنى معاها يا فتى الفتيان»
أول مرة قابلت نجيب محفوظ كانت على «محطة مصر».. كان لى صديق مسافر إلى أسوان، وذهبت معه للمحطة، وهناك وجدت نجيب محفوظ يقطع المحطة جيئة وذهابًا، والحقيقة أننى لم أكلمه وقتها، نجيب كانت له رهبة تليق به.
بعد ذلك عرفت أن له عادة.. يأتى إلى الإسكندرية من ١ أغسطس إلى ١ سبتمبر كل عام، وكان يذهب يوميًا إلى كافيه «بترو» مع توفيق الحكيم، وداومت على حضور هذه الندوة، وأخذت معى عبدالحكيم قاسم ومحمد حافظ رجب القاص العبقرى، وكثيرين، لكنى نادم على أنى لم أسجل هذه الندوات، وحتى بعد أن يسافر «محفوظ» للقاهرة، كنت أداوم على حضور ندوة «الحكيم».. «الحكيم» كان عبقريًا.
من الأزمات التى قابلت «محفوظ»، وعاصرته فيها، تأييده لـ«السادات»، وهو الأمر الذى قاطعه فيه الأدباء كلهم، أما أنا فلم أقاطعه لأنى أعلم أن هذا رأيه منذ القدم، لكننا أخذنا عليه تجاهل حق الفلسطينيين، رغم أنه كان نفس رأى عبدالعزيز آل سعود فى اجتماع «حرب ٤٨»، حين قال: «سلحوا الفلسطينيين واتركوهم»، فخرج الفلسطينيون كيلا تصيبهم المدفعية، وكانت النتيجة هى الهزيمة التى جعلت الإسرائيليين يتوغلون أكثر وأكثر.
وأرى أن «موسم الهجرة إلى الشمال» للأديب الطيب صالح أفضل رواية عربية، ورغم وجود روايات عميقة وممتعة مثل «أولاد حارتنا» و«الحرافيش» لنجيب محفوظ، و«فساد الأمكنة» لصبرى موسى، تبقى رواية الطيب صالح أفضل رواية عربية قرأتها. ذلك ليس سببه أن موضوع الرواية كان مغايرًا، فكثيرون تناولوا مسألة الهجرة وعلاقة الغرب بالشرق، ومنهم يحيى حقى فى «قنديل أم هاشم»، لكن لأن الطيب صالح كان مبدعًا حقيقيًا، وبنى الشخوص بقدرة مذهلة.. كل شىء فى هذه الرواية كان جيدًا جدًا. وأعتقد أنها أفضل من «أولاد حارتنا»، التى يعاب على نجيب محفوظ فيها «الرمزية المباشرة»، وهو العيب الذى تفاداه فيما بعد فى «الحرافيش».
أما يحيى حقى، فتعرفت عليه بطريقة غريبة جدًا.. كان رئيس تحرير مجلة «المجلة»، وكان من ينشر فيها يعتبر أديبًا حقيقيًا، لم يكن ينشر أى شىء غير ذى قيمة، فأرسلت له قصة، فأرسل لى خطابًا، قرأته فوجدته قراءة فى القصة، التى كانت باسم «العم»، وتتحدث فى رمزية عن سباق للخيل، وبها إسقاط على حرب ٦٧.
بعدها أردت الحصول على «منحة التفرغ»، وكانت لا تتم إلا بأن يجيزك ٣ من الأدباء، وهو ما تم بالفعل، وكان «حقى» عضوًا فى لجنة التفرغ، فذهبت إليه فى المجلة، وقلت له: «هذه رواية (سلمى الأسوانية) الفائزة بالجائزة.. إن وجدتها جيدة فأَجِزْها، وإن كانت غير ذلك فلا بأس، فقال لى: هذا كلام عدل».
توقف، وقال لى بعدها: «أليست هذه هى الرواية التى تكلم عنها يوسف الشارونى وكتب عنها المقال الكبير، وقال إنها من بيئة غير مألوفة؟»، قلت له: «نعم».. وفجأة تغير الحال، ووجدت الجالسين على المقاعد يأتون ليسلموا علىّ، ومنهم زوجته الفرنسية، واحتضننى عبدالله خيرت وكان سكرتير تحرير للمجلة، وكان شكرى عياد جالسًا بعيدًا نسبيًا، وجاء وسلم علىّ ورحب بى بقوة.
وبعد أن منحته رقم هاتفى عدت للإسكندرية وجاءنى خطاب من يحيى حقى يقول فيه: «لقد عيشتنى فى الرواية يا فتى الفتيان، وسأقف معك بكل قوتى حتى تحصل على التفرغ».. وبالفعل حصلت على المنحة.


رفضت عرض يوسف السباعى للعمل فى «آخر ساعة».. والصحافة مقبرة الأديب
الجوائز الثلاث التى حصلت عليها، سلمنى إياها يوسف السباعى، فتكرر وجهى أمامه فى ٣ مناسبات، وفى الجائزة الأخيرة كان جالسًا بجوارى، فقال لى: «أتحب أن تعمل معنا بالصحافة يا عبدالوهاب؟»، فسكت ولم أرد، وكان سكوتى بسبب أننى أعرف تمامًا أن الصحافة مقبرة الأديب، لأنه حين يعمل الروائى بالصحافة فإنها تستنزفه فلا يكتب، ولم ينج من هذا الفخ إلا قليلون. اعتبر «السباعى» أن سكوتى تفكير، فترك ما كان يأكله وابتعد عنى غاضبًا، وبعدها قابلت أحد أصدقائى فقال لى إن العمل فى «آخر ساعة» كنز كبير، لكن لم يكن يصح أن أذهب إليه مرة أخرى فتركت الأمر تمامًا. أذكر أن رجاء النقاش كان قادمًا للإسكندرية، فأرسل لى الفنان فاروق حسنى - كان مدير قصر ثقافة الأنفوشى وقتها - يريدنى لأمر مهم فقابلته وقال لى: «رجاء النقاش قادم وأريدك أن تقابله معى أنت ومحمد حافظ رجب».
بالفعل ذهبنا واستقبلناه، وفى الندوة التى أقامها القصر احتفاء بـ«النقاش»، تكلم عنى وقال: «احفظوا اسم عبدالوهاب الأسوانى جيدًا.. فهو كاتب كاتب كاتب».
بعد الندوة قال لى: أريد لقاءك فى الغد لأمر مهم، وأعطانى عنوان الفندق، وبالفعل ذهبت إليه فى الحادية عشرة صباحًا، فقال لى: «أريدك أن تعمل معى بالصحافة.. هل توافق؟»، فقلت له على الفور: «نعم» كى لا يتكرر موضوع يوسف السباعى، وذهبت إليه وقابلته وتسلمت عملى بالإذاعة والتليفزيون، وقبل أن أكتب أى ورقة حرر لى عقدًا للعمل. كما حضرت سهير القلماوى إحدى حفلاتى، وكنت لحظتها - كما أشرت - حاصلًا على ٣ جوائز، فقلت: «من سينشر لى روايتى التى فازت؟»، فى إشارة إلى «سلمى الأسوانية»، فقالت - وكانت رئيس هيئة الكتاب آنذاك: «سنكافئك يا عبدالوهاب وسنطبع لك روايتك فى طبعة خاصة وفخمة»، وهو ما حدث بالفعل.


مدين لـ«نجيب سرور» بـ«جنيه»
كان أمل دنقل حبيبًا على نفسى، وكنا نلتقى فى مقهى «ريش»، لم أكن أعرف أنه آخر لقاء، كنت أعمل فى قطر، وحين رجعت إجازة قابلنى وقال لى: «أنت تركت المركب وسافرت إلى قطر»، وتعاركنا أنا وهو، وبعدها قالوا لى إن «أمل» مريض، فقلت لهم هو يمرض ويقوم ولن أزوره، فمات!.
وإلى الآن لا أزال أحمل فى قلبى الكثير من الأسف لهذه اللحظة، لماذا لم أزره؟، كنت أظن أنه سيقوم ونتصالح، لكن القدر لم يمهله ولم يمهلنى.
أما نجيب سرور فقد كان حين يقابلنى يقول لى: «هات اتنين جنيه سلف»، وبعدها يأتى ويقول: «خد إنت لك عندى ٢ جنيه»، كان يفعلها كل مرة، وفى كل مرة لم يكن يزيد أو ينقص عن ٢ جنيه، وفى مرة أحضر لى جنيهًا وقال لى خذ هذا الجنيه، ومات بعدها وأنا مدين له بـ «١٠٠ قرش». يوسف إدريس كان عصبيًا جدًا، وكانت هناك مجلة بيروتية اسمها «حوار»، نشر فيها «إدريس» بعض القصص، ومنحوه جائزة قدرها ٢٠ ألف جنيه، فرفضها إدريس بعدما قبلها، وقابله الرئيس عبدالناصر وطلب من «مجلس الفنون والآداب» أن يمنحوه قيمة الجائزة ٢٠ ألف جنيه. كان - رحمه الله - شجاعًا جدًا فى مقالاته، ويكتب هو و«العقاد» و«التابعى» بشجاعة كبيرة جدًا، وأذكر أنه كان يتعارك بـ«كراسى المقاهى»، كما أذكر أنه كانت له أكثر من معركة فى «ريش»، وكان مشهورًا بهذا الأمر.