رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ


«كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ». إنه مقام العدل الإلهى، وإنه مقام المسئولية الفردية. فكل عبد مُرتهَن بعمله فحسب، فلا هو يؤاخَذ بجريرة غيره، ولا يحمل ذنبه أحدٌ غيره. ولا هو يستطيع فى ذلك المقام أن يلقى تهمًا على غيره أو يتهم أحدًا بسبب سوء عمله أو فشله هو. ونذكر هنا بعض التفسيرات لهذه الآية الكريمة:
ففى تفسير ابن كثير فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ»: يخبر تعالى عن فضله وكرمه، وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم فى الإيمان يلحقون آباءهم فى المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم فى منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه، بأن يرفع الناقص العمل، بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته، للتساوى بينه وبين ذاك، ولهذا قال: «أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيتّهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْءٍ».
وعن ابن عباس قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن فى درجته، وإن كانوا دونه فى العمل، لتقر بهم عينه ثم قرأ: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ» رواه ابن جرير وابن أبى حاتم من حديث سفيان الثورى.. وعن ابن عباس فى قول الله، عز وجل: «والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم» قال: هم ذرية المؤمن، يموتون على الإيمان: فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم، ولم ينقصوا من أعمالهم التى عملوا شيئًا.
وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- أظنه عن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك. فيقول: يا رب، قد عملت لى ولهم. فيؤمر بإلحاقهم به، وقرأ ابن عباس «والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان» الآية.
وعن أبى هريرة، عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».. وقوله: «كل امرئ بما كسب رهين» لما أخبر عن مقام الفضل، وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل يقتضى ذلك، أخبر عن مقام العدل، وهو أنه لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، بل «كل امرئ بما كسب رهين» أى: مرتهن بعمله، لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس، سواء كان أبًا أو ابنًا، كما قال: (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين فى جنات يتساءلون عن المجرمين)».
وفى تفسير السعدى فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ»: وهذا من تمام نعيم أهل الجنة، أن ألحق الله [بهم] ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان أى: الذين لحقوهم بالإيمان الصادر من آبائهم، فصارت الذرية تبعًا لهم بالإيمان، ومن باب أولى إذا تبعتهم ذريتهم بإيمانهم الصادر منهم أنفسهم، فهؤلاء المذكورون، يلحقهم الله بمنازل آبائهم فى الجنة وإن لم يبلغوها، جزاء لآبائهم، وزيادة فى ثوابهم، ومع ذلك، لا ينقص الله الآباء من أعمالهم شيئًا، ولما كان ربما توهم متوهم أن أهل النار كذلك، يلحق الله بهم أبناءهم وذريتهم، أخبر أنه ليس حكم الدارين حكمًا واحدًا، فإن النار دار العدل، ومن عدله تعالى ألا يعذب أحدًا إلا بذنب، ولهذا قال: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} أى: مرتهن بعمله، فلا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يحمل على أحد ذنب أحد. هذا اعتراض من فوائده إزالة الوهم المذكور.. أما فى تفسيرالوسيط لطنطاوى فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ»: الآية الكريمة بيان لحال طائفة من أهل الجنة- وهم الذين شاركتهم ذريتهم الأقل عملًا منهم فى الإيمان- إثر بيان حال المتقين بصفة عامة. والمراد بالذرية هنا: ما يشمل الآباء والأبناء وقوله: وَاتَّبَعَتْهُمْ معطوف على آمَنُوا. وقوله بِإِيمانٍ متعلق بالاتباع، والباء للسببية أو بمعنى فى ومعنى: أَلَتْناهُمْ أنقصناهم. يقال: فلان ألت فلانا حقه يألته- من باب ضرب- إذا بخسه حقه.
والمعنى: والذين آمنوا بنا حق الإيمان واتبعتهم ذريتهم فى هذا الإيمان، ألحقنا بهم ذريتهم، بأن جمعناهم معهم فى الجنة، وما نقصنا هؤلاء المتبوعين شيئا من ثواب أعمالهم، بسبب إلحاق ذريتهم بهم فى الدرجة، بل جمعنا بينهم فى الجنة. وساوينا بينهم فى العطاء- حتى ولو كان بعضهم أقل من بعض فى الأعمال- فضلًا منًا وكرمًا.
قال الإمام ابن كثير: يخبر- تعالى- عن فضله وكرمه، وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه إن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم فى الإيمان، يلحقهم بآبائهم فى المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم فى منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه، بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل، ولا ينقص ذاك من عمله ومنزلته. للتساوى بينه وبين ذاك. ولهذا قال: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ.
عن ابن عباس قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن فى درجته، وإن كانوا دونه فى العمل، لتقر بهم عينه، ثم قرأ هذه الآية.
وعن ابن عباس- أيضًا- يرفعه إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، سأل أحدهم عن أبويه وعن زوجته وولده، فيقال: إنهم لم يدركوا ما أدركت، فيقول: يا رب إنى عملت لى ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به».
وقوله: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ أى: كل إنسان مرهون بعمله عند الله- تعالى- فإن كان عمله صالحًا سعد وفاز، وأطلق نفسه من كل ما يسوؤها ويحزنها، وإن كان غير ذلك جوزى على حسب عمله وسعيه. والتعبير بقوله رَهِينٌ للإشعار بأن كل إنسان مرتهن بعمله، حتى لكأن العمل بمنزلة الدّين، وأن الإنسان لا يستطيع الفكاك منه إلا بعد أدائه. وللحديث صلة. وبالله التوفيق.