رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مئوية ناصر




حلَّت منذ أيام الذكرى المئوية لميلاد الزعيم الراحل «جمال عبدالناصر»، وتجدد الجدل حول السر فى هذه الشعبية الجارفة، التى مازال اسم هذا الرجل الكبير يحتفظ بها، هو الذى غادر عام ١٩٧٠، أى منذ ما يقرب من نصف قرن، ومع ذلك مازال محبوه يتذكرونه، ويستدعون من الذاكرة العميقة للشعب فى كل موقعة مواقفه.
والأجيال الأحدث التى لم تعاصره، وإنما سمعت عنه، تتابع على وسائل التواصل الحديثة خُطبه وكلماته، وتقرأ سيرته، وتتابع معاركه، ويتردد اسمه مع كل حدث جلل تمر به بلادنا، أو معركة شرسة يواجهها شعبنا، وكأنه بعد هذه السنوات الطوال، مازال حيًا، يبسط ظله الأخضر على هجير منطقة شاسعة، بحجم الوطن العربى كله، ويتجاوزه إلى ما كان يوصف فى أدبيات تلك المرحلة بـ«العالم الثالث»، أو «العالم النامى»، أو معسكر التحرر الوطنى والقومى، فى قارات العالم الثلاث: إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية!.
رحل «عبدالناصر»، أو «الريِّس»، كما كان يُدعى تحببًا، وهو فى سن صغيرة نسبيًا، لم تتجاوز الثانية والخمسين من عمره، وقد تساءل الكثيرون عن سر وفاته فى هذا العمر المبكر؟!، وادّعت إسرائيل أنها اغتالته وَرُوِيت فى ذلك روايات عديدة، أما قادة الاتحاد السوفيتى السابق فقد تساءلوا فى حسرة: كيف أمكن لقادة مصر الآخرين أن يتركوه يُفرِّطُ فى حياته على ذلك النحو، وقد كان أمامه من العمر مُتسع؟، وأدرك الجميع أنه كان يبذل من الجهد ما يفوق الطاقة، خاصةً مع تبعات ما بعد هزيمة ١٩٦٧ الثقيلة، ومواجهة أحمال إعادة بناء القوات المسلحة، ومحاولة لملمة مزق أمة مهلهلة، ومداواة جراح نفسية عميقة لمئات الملايين من البشر الذين آمنوا بدعوته، ومواجهة مؤامرات داخلية وخارجية لم تنقطع للحظة، منذ أن بدأ نجمه فى الصعود، وحتى غادر دنيانا؟!.
ولعل أهم عنصر فى ملحمة «ناصر»، فى اعتقادى، وهو سر مقاومة سيرته للنسيان حتى اليوم، يعود إلى استشعار الحاسة الشعبية، لملايين البشر، ليس فى مصر فحسب، وإنما فى المحيطين الإقليمى والدولى، بصدق مواقفه، ونُبل انحيازاته للفقراء والبسطاء وقضاياهم، ولوطنه وحقوقه، وتيقنهم من نزاهته الشخصية، واستعصائه على الإفساد، وبإحساسهم أنه جَسَّدَ، فى وجوده ومواقفه، كل ما كانوا يرومون لتحقيقه، من معانى الكبرياء الوطنى، والعزة القومية، والتطلع إلى المستقبل، والحُلم بالتقدم واحتلال المكانة اللائقة بنا فى هذا العصر!.
وقد يقول قائل: وماذا عن سلبياته وسلبيات عهده وأخطاء، أو حتى خطايا، نظامه؟!.. ولهم أقول، ولست من «أيتامه» أو «دراويشه»، إنه مع الاعتراف بكل نقاط الضعف فى منظومة الحكم أيامه، وبالأخطاء، وبعضها قاتلٌ، التى اقتُرفت إبّان سنوات حكمه، والتى يتحمل مسئوليتها بحكم موقعه والسلطات التى حازها، كما قال الشاعر العراقى الكبير «محمد مهدى الجواهرى» «العظيم المجد والأخطاء»، وهو ابن تاريخه وزمانه، ومن الظلم أن نحاكمه اليوم بمعايير مُستَحدثة، وقيم مُستَجَدة!.
لقد واجه «عبدالناصر»، بشعبه وإمكاناته المحدودة، إمبراطوريات كبرى، وكان سببًا رئيسيًا فى زوالها من الوجود، وحاربته دولٌ وطبقات اجتماعية شرسة، كرهته، وعملت بضراوة لإفشال تجربته، ولإسقاطه، وإسقاط وطنه، وإعادة استعباد أمته، واسترداد ما كانت تنهبه من خيراتنا، وقد تحقق لها الكثير مما أرادت بعد رحيله، وانظر حولك!.
الباقى فى تجربة «ناصر»، هو أنه وثق بشعبه، وحاول جاهدًا أن يفتح طريق أمته للمستقبل، وكان صادقًا تجاه أهله وناسه، فتذكروه، بعد أن غيَّبَ الثرى جسده، وأحبوه، حتى أصبحت سيرته جزءًا من مكونات وجدانهم الجمعى، واستحق لذلك المجد والخلود.