رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخشية من الله « 3-3»


تأمل أيها القارئ الكريم قول الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:٧٤].. ومعنى القسوة فى هذه الآية عبارة عن غلظة مع صلابة، وهى عبارة عن خلو القلب من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى، ولذا ضُرِبت بها قلوب الكافرين والمنافقين.
ولقد عاب الله تعالى على بنى إسرائيل ووبخهم على قساوة قلوبهم وعدم خشيتهم له سبحانه وتعالى، هذه القلوب (كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)، وقد كانت صلابة الحجر أعرف للناس وأشهر مثل يُضرب للقساوة لأنها محسوسة لديهم، ومع ذلك فقد عذر الله الحجارة، لكنه لم يعذر القاسية قلوبهم فقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله}ِ. وهنا نذكر بعض التفسيرات لمعنى الآية الكريمة:
ففى تفسير ابن كثير فإننا نقرأ معنى قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:٧٤].
يقول الله تعالى توبيخًا لبنى إسرائيل، وتقريعًا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى، وإحيائه الموتى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ) كله (فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ) التى لا تلين أبدًا.. ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: ١٦].
وقال العوفى، فى تفسيره، عن ابن عباس: لما ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط، فقيل له: من قتلك ؟ فقال: بنو أخى قتلونى. ثم قبض. فقال بنو أخيه حين قبض: والله ما قتلناه، فكذبوا بالحق بعد إذا رأوا. فقال الله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ) يعنى: بنى أخى الشيخ (فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) فصارت قلوب بنى إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهى فى قسوتها كالحجارة التى لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة، فإن من الحجارة ما تتفجر منها العيون الجارية بالأنهار، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء، وإن لم يكن جاريًا، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله، وفيه إدراك لذلك بحسبه، كما قال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [ الإسراء: ٤٤ ].. وعن مجاهد أنه كان يقول: كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، لمن خشية الله، نزل بذلك القرآن.
وعن ابن عباس: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه}.. أى وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق (وما الله بغافل عما تعملون).. وفى تفسير البغوى فإننا نقرأ معنى قوله تعالى {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ).. أى اشتدت وغلظت، فلم تؤثر فيها الموعظة، (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ)..أى من بعد ما أنعم عليكم بالنعم العظيمة وآراكم الآيات، ولم يكن ينبغى أن تقسو قلوبكم، لأن ما شاهدتم، مما يوجب رقة القلب وانقياده، ثم وصف قسوتها بأنها (كَالْحِجَارَةِ) التى هى أشد قسوة من الحديد، لأن الحديد والرصاص إذا أذيبا فى النار، ذابا بخلاف الأحجار.. وقوله: (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً).. أى أنها لا تقصر عن قساوة الأحجار، وليست أو «بمعنى» بل ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم، فقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} فبهذه الأمور فضلت قلوبكم.. ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بل هو عالم بها حافظ لصغيرها وكبيرها، وسيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه.
وفى كتاب الميزان لتفسير القرآن فإننا نقرأ معنى قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، القسوة فى القلب بمنزلة الصلابة فى الحجر وكلمة أو بمعنى بل والمراد بكونها بمعنى بل انطباق معناه على موردها، وقد بيّن شدة قسوة قلوبهم بقوله: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ}، وقوبل فيه بين الحجارة والماء لكون الحجارة يُضرب بها المثل فى الصلابة ككون الماء يُضرب به المثل فى اللين، فهذه الحجارة على كمال صلابتها يتفجر منها الأنهار على لين مائها وتتشقق فيخرج منها الماء على لينه وصلابتها، ولا يصدر من قلوبهم حال يلائم الحق، ولا قول حق يلائم الكمال الواقع.
قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، وهبوط الحجارة ما نشاهد من انشقاق الصخور على قلل الجبال، وهبوط قطعات منها بواسطة الزلازل، وصيرورة الجمد الذى يتخللها فى فصل الشتاء ماءً فى فصل الربيع إلى غير ذلك، وعد هذا الهبوط المستند إلى أسبابها الطبيعية هبوطًا من خشية الله تعالى، لأن جميع الأسباب منتهية إلى الله سبحانه، فانفعال الحجارة فى هبوطها عن سببها الخاص بها انفعال عن أمر الله سبحانه إيّاها بالهبوط، وهى شاعرة لأمر ربها شعورًا تكوينيًا، كما قال تعالى: {وإن من شىء إلاَّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: ٤٤]، وقوله تعالى: {ولله يسجد من فى السماوات والأرض طوعًا وكرهًا وظلالهم بالغدو والآصال} [الرعد: ١٥]، حيث عُد صوت الرعد تسبيحًا بالحمد وعُد الظلال ساجدة لله سبحانه إلى غير ذلك من الآيات التى جرى القول فيها مجرى التحليل كما لا يخفى.. وبالجملة فقوله: {وإن منها لما يهبط}، بيان ثانٍ لكون قلوبهم أقسى من الحجارة فإن الحجارة تخشى الله تعالى، فتهبط من خشيته، وقلوبهم لا تخشى الله تعالى ولا تهابه.. وبالله التوفيق.