رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ظواهر عالمية تؤسس لنظام دولى جديـد


أدت تفاعلات الوعود المكذوبة للرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، التى وعد بها الجميع فى فترتى حكمه إلى بروز ثلاث ظواهر رئيسية، أحسب أنها ستؤثر تأثير بالغا على بنيان النظام الدولى الراهن، الذى تتربع فيه الولايات المتحدة على قمته.
الظاهرة الأولى، ذات صبغة اقتصادية، وهى التناقض الحاد فى محتوى المعادلة الاستراتيجية الأمريكية، بين مقدرتها السياسية والعسكرية وبين مقدرتها الاقتصادية، ففى الوقت الذى تحتل فيه الولايات المتحدة المرتبة الأولى عالميا سياسيا وعسكريا، إلا أنها أصبحت لا تتمتع بذات المكانة اقتصاديا، حيث تواجه كثيرا من الصعوبات التى قـد لا تُمكنها من الاحتفاظ بمركز الهيمنة على العالم، خاصة عندما بدأت الصين مزاحمتها على قمة الهرم الاقتصادى العالمى، وأصبحت قادرة على إزاحتها نهائيًا فى المستقبل المنظور، حيث استطاعت الصين تحقيق معدلات تنمية غير مسبوقة تُؤهلها لاحتلال المرتبة الأولى اقتصاديا على المستوى العالمى.
وبالرغم من أن الصين تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث الناتج القومى الإجمالى، فإنها قـد اقتربت كثيرا لاحتلال المرتبة الأولى بالنظر إلى معـدلات التنمية التى حققتها، فى مقابل تدنى معـدلات التنمية وانكماش اقتصاد الولايات المتحدة، خاصة مع استحكام الأزمة المالية، التى ألقت بظلال تداعياتها السلبية على اقتصادها، والتى كادت تعـصف بها وتسبب إفلاسها، فإذا ما عـلمنا أن الناتج الإجمالى للصين بلغ ٥٦٫٩ تريليون يوان عام ٢٠١٣ بزيادة ٤٫٤ تريليون يوان عن عام ٢٠١٢، وأن حجم الاحتياطى النقدى للصين لعام ٢٠١٣ بلغ ٨٢٫٣ تريليون دولار بزيادة ٥٠٠ مليار دولار عن عام ٢٠١٢، وأن حجم استثماراتها الخارجية عام ٢٠١٣ بلغ ٣٥٫١ تريليون دولار بزيادة ١١٢ مليار دولار عن عام ٢٠١٢، وأن نسبة البطالة بها تُـقـدر بحوالى ٤٪ فقط- لأدركنا على الفور أنها قـد اقتربت كثيرا من احتلال المرتبة الأولى، وهو أخشى ما تخشاه الولايات المتحدة، حيث سيُـؤدى ذلك إلى زحزحة مركز الهيمنة Focus Of Hegemony إلى الصين لتحتل قمة هرم الاقتصاد العالمى.
أما الظاهرة الثانية فهى ذات صبغة سياسية وأمنية وعسكرية، ذلك أن روسيا مازالت ُتمثل قطبا قائما بذاته فى جميع الحسابات الاستراتيجية من الزاويتين الأمنية والعسكرية، بحكم ما تمتلكه من قدرات عسكرية ضخمة تقليدية وفوق تقليدية ونووية وهيدروجينية أيضا، الأمر الذى أدى إلى تراجع الدور الأمريكى أمام الدور الروسى سياسيا، حيث أظهرت القضايا المطروحة على الساحة الدولية على نحو عام، والقضية السورية على نحو خاص، تراجعا حادا فى الدور الأمريكى مقابل تعاظم الدور الروسى، ويتجلى هذا التراجع فى تحدى روسيا للإرادة الأمريكية عـنـدما منحت حق اللجوء السياسى لإدوارد سنودن، الخبير فى أنظمة المراقبة الرقمية فى وكالة الأمن القومى الأمريكى، وكذلك عندما فرضت روسيا إرادتها فى القضية السورية لتنفرد بصياغة حل سلمى لهذه القضية التى تتسم بالحساسية والدقة والتعـقيـد، كما يمثل الفتح الاستراتيجى لأسطولها البحرى فى المياه الدافئة للبحرين الأحمر والمتوسط لأول مرة منذ عـقود ولت وانقضت تحديا عسكريا بالغ الحساسية والتعقيد للولايات المتحدة، لكن التحدى الأكبر هو إعلان روسيا تأسيس قاعدتى طرطوس وحميميم السوريتين، لتكونا قاعدتين دائمتين لقواتها البحرية والجوية فى قلب المياه الدفيئة للبحر المتوسط.
وتتمثل الظاهرة الثالثة فى تأجج الصراع بين القوى البحرية والقوى البرية، إذ تُعـتبر تفاعلات أزمتى أوكرانيا وانخفاض أسعار النفط عالميا تجسيدا لهذا الصراع، وقد تعاظمت حدة هذا الصراع بعـد قيـام روسيا بضم شبه جزيرة القرم، التى تتحكَم فى البحر الأسـود، الذى لا تتجمد مياهه معـظم أيام السنة، والذى يُعـتبـر أيضا منطقة التمركز الوحيدة للأسطول الروسى، والطريق البحرى الوحيـد لوصوله إلى مياه البحر المتوسط، ومن ثم إلى محيطات العالم، حيث يُصبح البحر الأسود بحرا مغلقا عـند إغلاق مضيقى البوسفور والدردنيل، وتصيـر روسيا دولة حبيسة، وفى الوقت نفسه قامت الولايات المتحدة بتكثيف تواجدها فى منطقة بحر الصين الجنوبى، وتحالفت مع كثير إن لم يكن مع جميع الدول المتشاطئة عليه، وأجرت مع هذه الدول تدريبات مشتركة للسيطرة على مضيق ملقا، حيث يُعتبـر هذا المضيق هو المنفـذ الوحيـد لوصول الصين للمحيط الهندى، وبالتالى إلى بحار ومحيطات العالم.
وفى خضم تطور هذه الظواهـر الثلاث التى تتسم بسرعة وكثافة وتراكم تفاعـلاتها، فإنها ستقود حتما إلى نشأة تحالفات وتوازنات جديدة، وتحالفات وتوازنات أخرى مضادة، ولذلك يُشير الواقع ودلالاته إلى أن هذه الظواهر الثلاث تُعتبر إيـذانا بتحول النظام الدولى الراهن أحادى القطبية إلى نظام عالمى جـديــد تتعـدد فيه الأقطاب فى المستقبل القريب، وإن لم تتحدد ملامحه بعـد، إذ لا يستوى أن ينتظم النسق الدولى فى ظل هيمنة قـوة وحيـدة، وهو ما أدركته الولايات المتحدة أخيرا، حيث وجدت نفسها أمام مأزق جديد شديد الدقة والتعـقيـد، فكيف يتسنى لها التوفيق بين تحكمها فى مراحل تحول النظام الدولى، ومتطلبات صيانة مصالحها المنتشرة على الساحة العالمية.