رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البابا شنودة الثالث يكتب: لماذا جاء المسيح إلى عالمنا؟

جريدة الدستور

هذا يوضحه الإنجيل بقوله: «لأن ابن الإنسان قد جاء لكى يطلب ويخلص ما قد هلك» (لو ١٠:١٩) وهذا يعنى الخطاة الهالكين، ولماذا جاء يخلصهم؟ السبب أنه أحبهم على الرغم من خطاياهم!! وفى هذا يقول الكتاب: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكى لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو ١٦:٣). إذن هو حب أدى إلى البذل، بالفداء.

الإنسان وقف من الله موقف عداء فردّ الرب بـ«الحب»
قصة ميلاد المسيح إذن هى فى جوهرها قصة حب.. أحب الله العالم، العالم الخاطئ، المقهور من الشيطان، المغلوب من الخطية.. العالم الضعيف العاجز عن إنقاذ نفسه! أحب هذا العالم الذى لا يفكر فى حب نفسه حبًا حقيقيًا، ولا يسعى إلى خلاص نفسه.. بل العالم الذى فى خطيته انقلبت أمامه جميع المفاهيم والموازين، فأصبح عالمًا ضائعًا. والعجيب أن الله لم يأت ليدين هذا العالم الخاطئ، بل ليخلصه، فقال: «ما جئت لأدين العالم، بل لأخلص العالم» (يو٤٧:١٢). لم يأت ليوقع علينا الدينونة، بل ليحمل عنا الدينونة. من حبه لنا وجدنا واقعين تحت حكم الموت، فجاء يموت عنا. ومن أجل حبه لنا، أخلى ذاته، وأخذ شكل العبد، وصار إنسانًا.
كانت محبة الله لنا مملوءة اتضاعًا فى ميلاده وفى صلبه.
فى هذا الاتضاع قبل أن يولد فى مذود بقر، وأن يهرب من هيرودس، كما فى اتضاعه أطاع حتى الموت، موت الصليب، وقبل كل الآلام والإهانات لكى يخلص هذا الإنسان الذى هلك.
رأى الرب كم فعلت الخطية بالإنسان فتحنن عليه.
كان الإنسان الذى خلق على صورة الله ومثاله قد انحدر فى سقوطه إلى أسفل، وعرف من الخطايا ما لا يحصى عدده، حتى وصل إلى عبادة الأصنام «وقال ليس إله»، «الجميع زاغوا وفسدوا معًا» (مز ١:١٤-٣).. ووصلت الخطية حتى إلى المواضع المقدسة.
الإنسان وقف من الله موقف عداء ورد الله على العداء بالحب!!!!
فجاء فى محبته «يطلب ويخلص ما قد هلك». وطبعًا الهالك هو الإنسان الذى عصى الله وتحداه، وكسر وصاياه، وبعد عن محبته، «وحفر لنفسه آبارًا مشققة لا تضبط ماء» (أر ١٣:٢).. ولكن الله – كما اختبره داود النبى «لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا حسب آثامنا، وإنما.. كبعد المشرق عن المغرب، أبعد عنا معاصينا» (مز١٠:١٠٣-١٢). ولماذا فعل هكذا؟ يقول المرتل: «لأنه يعرف جبلتنا. يذكر أننا تراب نحن» (مز ١٤:١٠٣).
حقًا إن الله نفذ (محبة الأعداء) على أعلى مستوى.
جاء الرب فى ملء الزمان، حينما أظلمت الدنيا كلها، وصار الشيطان رئيسًا لهذا العالم (يو٣٠:١٤) وانتشرت الوثنية، وكثرت الأديان، وتعددت الآلهة، ولم يعد للرب سوى بقية قليلة، قال عنها إشعياء النبى: «لولا أن رب الجنود أبقى لنا بقية صغيرة، لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة» (إش ١:٩).
وجاء الرب ليخلص هذا العالم الضائع، يخلصه من الموت ومن الخطية، وقف العالم أمام الله عاجزًا، يقول له: «الشر الذى لست أريده، إياه أفعل»، «ليس ساكنا فى شىء صالح»، «أن أفعل الحسنى لست أجد» (رو ١٧:٧-١٩). أنا محكوم علىّ بالموت والهلاك. وليس غيرك مخلص (إش ١١:٤٣). هذا ما تقوله أفضل العناصر فى العالم، فكم وكم الأشرار الذين يشربون الخطية كالماء، ولا يفكرون فى خلاصهم!!
إن كان الذى يريد الخير لا يستطيعه فكم بالأولى الذى لا يريده؟!
إنه حقًا قد هلك.. لم يقل الكتاب عن المسيح إنه جاء يطلب من هو معرض للهلاك، وإنما من قد هلك.. لأن «أجرة الخطية هى الموت» (رو ٢٣:٦).
والرب فى سمائه استمع إلى آنات القلوب وهى تقول: قلبى قد تغير: الله لم أعد أطلبه والخير لم أعد أريده والتوبة لا أبحث عنها ولا أفكر فيها، ولا أريدها. لماذا؟ لأن «النور جاء العالم، ولكن العالم أحب الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة» (يو١٩:٣). وما دام قد أحب الظلمة أكثر من النور، إذن فسوف لا يطلب النور ولا يسعى إليه!!!

أعطى الرجاء للكل وفتح باب الخلاص أمام الجميع وعامل الملايين بكل صبر
هذا العالم الذى يحب الظلمة، جاء الرب ليخلصه من ظلمته. «إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله» (يو ١١:١). وعدم قبولهم له معناه أنهم هلكوا، والرب قد جاء يطلب ويخلص ما قد هلك. رفضهم له لا يعنى أنه هو يرفضهم. بل على العكس يسعى إليهم، لكى يخلصهم من هذا الرفض «لأنه يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون» (١ تى ٤:٢).
كذلك جاء يطلب الوثنيين الذين يعبدون آلهة أخرى غيره. هم لا يعرفونه. ولكنه يعرفهم ويعرف ضياعهم. وقد جاء لكى يطلبهم «النور أضاء فى الظلمة. والظلمة لم تدركه» (يو ٥:١) ولكنه لم يتركهم لعدم إدراكهم له. إنما جاء ليعطيهم علم معرفته. وقد قال للأب عن كل هؤلاء الذين جاء ليخلصهم: «عرفتهم اسمك وسأعرفهم، ليكون فيهم الحب الذى أحببتنى به، وأكون أنا فيهم» (يو ٧١:٦٢).
ما أكثر ما احتمل الرب لكى يخلص ما قد هلك
لست أقصد فقط ما احتمله على الصليب ولكنى أقصد أيضًا ما احتمله أثناء كرازته من الذين رفضوه، حتى من خاصته!!! التى لم تقبله.. حقًا ما أعجب هذا أن يأتى شخص ليخلصك، فترفضه وترفض خلاصه. ومع ذلك يصر على أن يخلصك!!!!
حتى الذين أغلقوا أبوابهم فى وجهه، صبر عليهم حتى خلصهم. كان فى محبته وفى طول أناته، لا ييأس من أحد.. جاء يعطى الرجاء لكل أحد، ويفتح باب الخلاص أمام الكل» يعطى الرجاء حتى للأيدى المسترخية وللركب المخلعة» (عب ١٢:١٢). «قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ» (مت ٢٠:١٢). إنه جاء ليخلص، يخلص الكل، وكل هؤلاء مرضى وضعفاء وخطاة، ومحتاجون إليه. وهو قد قال: «لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى، ما جئت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة» (مر ١٧:٢).
من أجل هذا، لم يجد المسيح غضاضة فى أن يحضر ولائم الخطاة والعشارين ويجالسهم ويأكل معهم ويجتذبهم إليه بالحب. ويقول للمرأة التى ضبطت فى ذات الفعل: «وأنا أيضًا لا أدينك». (يو ١١:٨) لأنه ما جاء ليدينها، بل ليخلصها.
وهكذا قيل عنه إنه «محب للعشارين والخطاة» (مت ١٩:١١).
بل إنه جعل أحد هؤلاء العشارين رسولًا من الإثنى عشر (متى). واجتذب زكا رئيس العشارين للتوبة وزاره ليخلصه هو وأهل بيته، وقال: «اليوم حدث خلاص لأهل هذا البيت، إذ هو أيضا ابن لإبراهيم» (لو ٩:١٩). فتذمروا عليه قائلين: «إنه دخل ليبيت عند رجل خاطئ»، ولكنه كان يطلب ويخلص ما قد هلك.
إنه لم يحتقر الخطاة مطلقًا، فالاحتقار لا يخلصهم!، إنما يخلصهم الحب والاهتمام، والرعاية والافتقاد، والعلاج المناسب. العالم كله كان فى أيام المسيح «قصبة مرضوضة وفتيلة مدخنة». فهل لو العالم فسد وهلك، يتخلى عنه الرب؟! كلا.. بل يعيده إلى صوابه.
حتى الذين قالوا اصلبه، قدم لهم الخلاص أيضًا. وقال للأب وهو على الصليب: «يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون» (لو ٣٤:٢٣). ولماذا قال: «اغفر لهم»؟.. لأنه جاء يطلب ويخلص ما قد هلك. ولهذا فتح باب الفردوس أمام اللص المصلوب معه.
لم يكن ينظر إلى خطايا الناس، إنما إلى محبته هو. لم ينظر إلى تعدياتنا، إنما إلى مغفرته التى لا تحد. أما تعدياتنا فقد جاء لكى يمحوها بدمه. وحينما كان ينظر إليها، كان يرى فيها ضعفنا. لذلك قال له المرتل: «إن كنت للآثام راصدًا يا رب، يا رب من يثبت؟! لأن من عندك المغفرة» (مز ١٣٠).
إنه درس لنا، لكى لا نيأس، بل نطلب ما قد هلك. هناك حالات معقدة فى الخدمة نقول عنها: «لا فائدة فيها»، فنتركها ونهملها كأن لا حل لها، بل نقول إنها من نوع الشجرة التى لا تصنع ثمرًا، فتقطع وتلقى فى النار (يو ١٠:٣). أما السيد المسيح فلم ييأس مطلقًا، حتى من إقامة الميت الذى قال عنه أحباؤه إنه قد أنتن لأنه مات من أربعة أيام (يو ١١).
وهذا درس لنا أيضًا لكى نغفر لمن أساء إلينا. لأن الرب فى تخليصه ما قد هلك، إنما يغفر لمن أساء إليه. فالذى هلك هو خاطئ أساء إلى الله. والرب جاء يطلب خلاصه..!! كم ملايين وآلاف ملايين عاملهم الرب هكذا، بكل صبر وكل طول أناة، حتى تابوا وخلصوا. وبلطفه اقتادهم إلى التوبة (رو ٤:٢).

جاء يبشر المساكين ويعصب منكسرى القلوب وينادى للمأسورين بالإطلاق
كثيرون سعى الرب إليهم دون أن يفكروا فى خلاصهم. وضرب مثالًا لذلك: الخروف الضال، والدرهم المفقود (لو ١٥). ومثال ذلك أيضًا الذين يقف الله على بابهم ويقرع، لكى يفتحوا له (رؤ ٢٠:٣). وكذلك الأمم الذين ما كانوا يسعون إلى الخلاص، ولكن السيد المسيح جاء لكى يخلصهم ويفتح لهم أبواب الإيمان. ويقول لعبده بولس: «اذهب فإنى سأرسلك بعيدًا إلى الأمم» (أع ٢١:٢٢) لما ذكر القديس بولس هذه العبارة التى قالها له الرب صرخ اليهود عليه قائلين إنه: «لا يجوز أن يعيش» (أع ٢٢:٢٢). ولكن هداية الأمم كانت قصد المسيح الذى جاء يطلب ويخلص ما قد هلك. جاء الرب يغير النفوس الخاطئة إلى أفضل. غير المؤمنين جاء يمنحهم الإيمان. والخاطئون جاء يمنحهم التوبة. والذين لا يريدون الخير جاء يمنحهم الإرادة. والذين رفضوه جاء يصالحهم ويصلحهم. وهكذا كان يجول يصنع خيرًا (أع ٣٨:١٠). حتى المتسلط عليهم إبليس جاء ليعتقهم ويشفيهم.
لذلك نحن نناديه فى أوشية المرضى ونقول له: «رجاء من ليس له رجاء، ومعين من ليس له معين. عزاء صغيرى النفوس، وميناء الذين فى العاصف». كل هؤلاء لهم رجاء فى المسيح الذى جاء يطلب ويخلص ما قد هلك.. إنه عزاء الهالكين وأملهم.
لذلك دعا اسمه «يسوع» أى المخلص، لأنه جاء يخلص. ولذلك فإن ملاك الرب المبشر ليوسف النجار، قال له عن العذراء القديسة: «ستلد ابنًا، وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم» (متى ٢١:١). مجرد اسمه يحمل معنى رسالته التى جاء من أجلها، أنه جاء يخلص ما قد هلك.
جاء يبشر المساكين، يعصب منكسرى القلوب. ينادى للمسبيين بالعتق، وللمأسورين بالإطلاق» (إش ١:٦١). ما أحلاها بشرى جاء المسيح بها. لم يقدم للناس إلهًا جبارًا يخافونه، بل قدم لهم أبًا حنونًا يفتح لهم أحضانه، يلبسهم حلة جديدة. ويضع خاتمًا فى أصبعهم، ويذبح لهم العجل المسمن (لو ١٥). إلهًا يخلصهم من خطاياهم، ويمسح كل دمعة من عيونهم. وهكذا ارتبط الخلاص باسم المسيح وبعمله وفدائه.

فإن كنت محتاجًا للخلاص، فأطلبه منه: يخلصك من عاداتك الخاطئة، ومن طبعك الموروث، ومن خطاياك المحبوبة، ومن كل نقائصك. ينضح عليك بزوفاه فتخلص، ويغسلك فتبيض أكثر من الثلج. هذه هى صورة المسيح المحببة إلى النفس، الدافعة إلى الرجاء. فإن أردت أن تكون صورة المسيح، افعل مثله، اطلب خلاصًا كل أحد. افتقد سلامة أخوتك. وأولًا عليك أن تحب الناس كما أحبهم المسيح، وتبذل نفسك عنهم -فى حدود إمكاناتك- كما بذل المسيح. وتكون مستعدًا أن تضحى بنفسك من أجلهم. بهذا تدخل فاعلية الميلاد فى حياتك. ثم انظر ماذا كانت وسائل المسيح لأجل خلاص الناس. استخدم طريقة التعليم، فكان يعظ ويكرز، ويشرح للناس الطريق السليم، حتى يسلكوا بالروح وليس بالحرف. واستخدم أيضًا أسلوب القدوة الصالحة.

وبهذا ترك لنا مثالًا، حتى كما سلك ذاك، ينبغى أن نسلك نحن أيضًا (يو ٦:٢). واستخدم المسيح الحب، وطول الأناة، والصبر على النفوس حتى تنضج. كما استخدم الاتضاع والهدوء والوداعة. وأخيرًا بذل ذاته، مات عن غيره، حامًلا خطايا الكل. فافعل ما تستطيعه من كل هذا، واشترك مع المسيح، على الأقل فى أن تطلب ما قد هلك، وتقدمه للمسيح يخلصه. وعلى الأقل قدم صلاة عن غيرك ليدخل الرب فى حياته ويخلصه. والصلاة بلا شك هى عمل فى إمكانك. ولا تكن عنيفًا ولا قاسيًا فى معاملة الخطاة، بل تذكر قول الرسول: «أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِى زَلَّةٍ مَا، فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ» (رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية ١: ٦).. كما استخدم الرب روح الوداعة فى طلب الناس وتخليصهم.

وأول شىء نتذكره فى ميلاد الرب هو عمق محبته للناس، فمن أجل محبته لهم سعى لخلاصهم. ومن أجل محبته لهم أخلى ذاته وأخذ شكل العبد ونزل من السماء وتجسد وصار فى الهيئة كإنسان (فى ٢: ٧).
إن التجسد والفداء أساسهما محبة الله للناس، فهو من أجل محبته لنا جاء إلينا، ومن أجل محبته لنا مات عنا، لهذا يقول الكتاب: «هكذا أحب الله العالم... حتى بذل ابنه الوحيد» (يو ٣: ١٦).

المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة
انظروا ماذا يقول: «هكذا أحب.. حتى بذل»، نحن إذن فى تجسده، نذكر محبته التى دفعته إلى التجسد، واعترافًا منا بهذه المحبة، نتغنى بها فى بدء كل يوم، إذ نقول للرب فى صلاة باكر: «أتيت إلى العالم بمحبتك للبشر، وكل الخليقة تهللت بمجيئك».
فقبل ميلاد السيد المسيح، كانت هناك خصومة بين الله والناس، فجاء السيد المسيح لكى يصالحنا مع الله، أو جاء لكى نصطلح معه هو، قبل مجيئه كانت هناك خصومة بين السماء والأرض، ومرت فترة طويلة كانت فيها شبه قطيعة بين السمائيين والأرضيين: لا رؤى ولا أحلام مقدسة ولا أنبياء، ولا كلام من الله للناس، ولا ظهورات مقدسة.. ولا أية صلة واضحة!!، كانت الأرض بعيدة عن السماء طوال تلك الفترة.

كانت خطايا الناس كليالى الشتاء: باردة ومظلمة وطويلة، وكانت تحجب وجه الله عنهم، وكانت الخصومة بينهم وبين الله، يمثلها فى الهيكل الحاجز المتوسط الذى لا يستطيع أحد من الشعب أن يجتازه إلى قدس الأقداس.. وزادت خطايا الناس، واحتدم غضب الله عليهم، واستمرت القطيعة، ولم يحاول البشر أن يصطلحوا مع الله.
ثم جاء السيد المسيح فأقام صلحًا بين السماء والأرض، وأرجع الصلة بينهما، وبدأت تباشير الصلح تظهر. ورجعت العلاقات كما كانت من قبل وأكثر... ولكى أوضح الأمر لكم أقول: تصوروا أن دولتين متخاصمتين قد رجع الصلح بينهما، فماذا تكون النتيجة؟.. طبعًا ترجع العلاقات كما كانت، ويعود التمثيل السياسى بينهما، وإرسال السفراء والقناصل، وفى ظل المودة الجديدة تبرم اتفاقية اقتصادية واتفاقية ثقافية واتفاقية عسكرية.. المهم أنه توجد علاقة وصلة، وكذلك لنفرض أن شخصين متخاصمين اصطلحا، فى ظل الصلح نرى العلاقات قد بدأت ترجع، تعود التحيات والابتسامات والزيارات والأحاديث، وتعود المودة.. هكذا حدث بين السماء والأرض، وبدأت تباشير الصلح تظهر بمجىء السيد المسيح إلى الأرض أو فى خطوات وممهدات مجيئه.. وأول شىء شاهدناه من تباشير هذا الصلح هو كثرة نزول الملائكة إلى الأرض.

فى مجىء السيد المسيح وقبيل مجيئه، ازداد ظهور الملائكة بشكل واضح، ظهورات متوالية، فردية وجماعية، كسفراء للرب، وتهلل الملائكة بفرح عظيم، وأرادوا أن يشتركوا فى هذا الحدث العجيب، وهو تجسد الرب وميلاده، فظهر ملاك يبشر زكريا بولادة يوحنا (لو١: ١١)، وملاك يبشر العذراء بولادة السيد المسيح (لو١: ٢٦)، وملاك ظهر ليوسف فى حلم يخبره بحَبَل العذراء (مت١: ٢٠). وملاك ظهر للرعاة يبشرهم بالميلاد الإلهى (لو٢: ٩)، وملاك ظهر ليوسف فى حلم، وأمره أن يهرب بالطفل يسوع وأمه إلى مصر (مت٢: ١٣). بالإضافة إلى هذا، جمهور من الملائكة الذين ظهروا مسبحين الله، وقائلين: «المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة» (لو١٢: ٢٣، ١٤).

إن ظهور الملائكة بهذه الكثرة، يدل على أن العلاقات بدأت ترجع بين السماء والأرض، وتدل على فرح الملائكة بالخلاص المزمع، واشتراكهم مع الأرضيين فى هذا الفرح.

وظهور الملائكة فى فترة الميلاد كان مجرد طلائع للملائكة الذين ملأوا العهد الجديد.. ملائكة كانوا يخدمون الرب على جبل التجربة (مر١: ١٣)، وملائكة القيامة الذين ظهروا للنسوة، ومثل الملاكان اللذان طمأنا الرسل وقت صعود الرب (أع١: ١٠).
كان هؤلاء جميعًا طلائع نعرف بهم الملائكة غير المرئيين المحيطين بنا الآن، الذين قال عنهم القديس بولس الرسول: «أليس جميعهم أرواحًا خادمة، مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص» (عب١: ١٤).
ولم تكتف السماء فى صلحها مع الأرض بظهور الملائكة، بل امتدت إلى الأحلام المقدسة بما فيها من توجيه وإعلان.
اجتمع الأمران معًا بالنسبة ليوسف الصديق: ملاك ظهر له فى حلم يخبره بالحَبَل المقدس (مت١: ٢٠)، وملاك ظهر له فى حلم يأمره بالذهاب إلى مصر (مت٢: ١٣)، ثم بعد ذلك ظهر له ملاك فى حلم فى أرض مصر يأمره أن يرجع إلى بلده لأنه «قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبى» (مت٢: ٢٠)، ولما خاف أن يذهب إلى اليهودية بسبب أن أرخيلاوس كان يملك هناك، أوحى إليه فى حلم «أن ينصرف إلى نواحى الجليل، فذهب وسكن فى الناصرة» (مت٢: ٢٢).
هؤلاء الملائكة الذين ظهروا ليوسف الصديق فى الأحلام، يعطوننا فكرة عن سمو مكانة العذراء. فالعذراء ظهر لها الملائكة عيانًا فى صحوها، رأتهم بعينيها وسمعتهم بأذنيها، أما يوسف الصديق فرأى وسمع فى الأحلام. إن هذا يذكرنا بالفرق الكبير بين مركز موسى النبى ومركز هارون ومريم، اللذين وبخهما الرب عندما تقولا على موسى، فقال لهما: «إن كان منكم نبى للرب، فبالرؤيا أستعلن له، فى الحلم أكلمه. وأما عبدى موسى فليس هكذا بل هو أمين فى كل بيتى. فمًا إلى فم وعيانًا أتكلم معه» (عد١٢: ٦-٨).

لقد كلم الملائكة يوسف الصديق عن طريق الأحلام. وهكذا حدث أيضًا مع المجوس، بعد أن رأوا الطفل يسوع، وقدموا له هداياهم «أوحى إليهم فى حلم ألا يرجعوا إلى هيرودس، فانصرفوا إلى كورتهم» (مت٢: ١٢).
وحديث المجوس يذكرنا بظهورات مقدسة أخرى صاحبت حديث الميلاد، ونقصد أولًا النجم الذى ظهر للمجوس، وأرشدهم إلى مكان المزود المقدس (مت٢: ١-١٢). لم يكن ذلك النجم عاديًا - كما شرح القديس يوحنا ذهبى الفم - بل كان قوة إلهية أرشدتهم، ذلك أن مساره كان غير عادى من الشرق إلى الغرب، وكان يظهر حينًا، ويختفى حينًا آخر، ويقف حينًا ثالثًا. كذلك إرشاده لمكان المزود، معناه أنه هبط من علوه هبوطًا يوضح المكان، وبخاصة لأن الكتاب يقول عنه إنه: «وقف حيث كان الصبى»، هذا النجم كان ظهورًا مقدسًا ولم يكن نجمًا كباقى النجوم.