رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من ديسمبر 1956 إلى ديسمبر 2017


صادف السبت ٢٣ ديسمبر الجارى احتفال الشعب المصرى بعيد نصر جديد، فى حين احتفل التاريخ المصرى بعيد نصر سابق حينما انسحب آخر جندى من جنود بريطانيا وفرنسا من بورسعيد فى ديسمبر عام ١٩٥٦ فى أعقاب العدوان الثلاثى على مصر.
صحيح أنه نصر خاص بالموقف فى فلسطين والقدس، لكننا دائما ما ننظر إلى ما يحدث فى فلسطين على أنه قضية خاصة بالأمن القومى المصرى قبل أن يكون قضية فلسطينية، فالحقيقة تقول إن مصر الدولة سابقة تاريخيا كثيرا عن أى دولة عربية بما فيها فلسطين.
واكتشف كبار القادة فى تاريخ مصر- سواء من أبناء مصر، مثل تحتمس ورمسيس أو من قوى الاحتلال التى احتلت مصر أحيانا مثل الإسكندر ويوليوس قيصر ثم نابليون وبريطانيا، والتى كثيرا ما ذابت فى نسيج المجتمع المصرى- اكتشفوا علاقة الأمن المصرى بأمن الجوار، بحيث أصبح من الصعب اكتشاف خطوط الحدود بين أمن مصر وأمن الدول المجاورة، وبعبارة أدق أمن البلاد العربية المجاورة، ففى سابق التاريخ لم تكن هناك دولة فلسطينية، لكن مصر كانت على علاقة ببلاد الشام التى ضمت ما نعرفه الآن بفلسطين ولبنان وسوريا والأردن، كما لم تكن هناك دولة العراق وإنما كانت هناك ولاية البصرة وولاية بغداد وهكذا. المهم أن ما حدث فى الأمم المتحدة فى الفترة من ٩ ديسمبر إلى ٢١ ديسمبر ٢٠١٧ يمثل نصرا عربيا ومصريا وعالميا يذكرنا بنصر ١٩٥٦ حينما انتصرت مصر على العدوان الثلاثى، وكان النصر عربيا فى نفس الوقت، حيث انطلقت حركة التحرر العربى، وعالميا انطلقت فترة جديدة من تاريخ النظام العالمى حين توارت الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية، وظهرت ملامح النظام ثنانى القطبية. أما ديسمبر ٢٠١٧ فقد كان انتصار مصر بصفة خاصة فى عزلة الولايات المتحدة بعد تصويت مجلس الأمن على مشروع القرار المصرى، ومن بعده تصويت الجمعية العامة على مشروع القرار العربى والإسلامى والذى يؤذن بانتهاء فترة النظام العالمى أحادى القطبية. يذكرنى ما سبق بما تعرضت له مصر من تهديدات عدة فى فترات متقاربة لنتذكر بصفة خاصة العدوان الثلاثى عام ١٩٥٦ على مصر، وهو ما يمر عليه أبناء الأجيال التالية مر الكرام، حيث ينظر البعض لما تعرضت له مصر بمعايير القوى الدولية، أى أنه مثلا يمكن القول بأن القوات المصرية قد انسحبت من سيناء فى العدوان الثلاثى بعد أن عطلت الهجوم الصهيونى على سيناء، أو أن قوات المظلات لم تقم بأى عملية إسقاط «إبرار»، أو أن القوات الجوية لم تشارك فى عمليات جوية بمجرد بدء العدوان البريطانى الفرنسى ٣١ أكتوبر، وبعد أن شاهد جمال عبدالناصر بعينيه القاذفات البريطانية من طراز كانبرا من فوق سطح منزله فى منشية البكرى، ويتناسى هؤلاء أن مصر فى ذلك الوقت كانت قد تخلصت لتوها من الاحتلال البريطانى، وأنها كانت دولة صغيرة تواجه عدوان دولتين كبيرتين هما فرنسا وبريطانيا العظمى، التى كانت انسحبت لتوها من مصر فى يونيو من نفس السنة، أى قبل بدء العدوان الثلاثى بأربعة أشهر ونصف تقريبا، وأن القوات المسلحة المصرية كانت قد بدأت لتوها فى إعادة بناء نفسها بعد إنهاء الاحتلال. ولا يسأل البعض أنفسهم: ما الذى يجعل دولتين كبيرتين مثل بريطانيا العظمى وفرنسا ومعهما إسرائيل تهاجم دولة صغيرة كمصر فى ذلك الوقت؟ وليس هناك تفسير لهذا السلوك سوى أن مصر بما قامت به مثل نموذجا لحركة تحرر وطنى أزعج القوى الاستعمارية المسيطرة فى ذلك الوقت، كما أنها شكلت طليعة لتقدم القوى الصغرى، وللأسف فقد قرأت مقالًا لأحد الزملاء به بعض الأخطاء فى تأريخ هذه الحرب، وأذكر هنا أن قبل الحرب كانت هناك محطة إذاعة من قبرص تسمى «محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية» وانقلبت بمجرد بدء العدوان لتقول « هنا صوت بريطانيا»، ولكن العدوان وما حققته مصر من نصر كان سببا فى الانتقال إلى نظام عالمى ثنائى القطبية بعد أن تحولت دول العدوان إلى دول من الدرجة الثانية. تكرر الأمر بتعديل محدود إلى عدوان تدعمه الدول الكبرى عام ١٩٦٧، حيث تعاونت القوى الغربية، خصوصا بريطانيا وفرنسا، مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وكانت الحجة هى المرور فى خليج العقبة، لكن الحقيقة أن القوى الاستعمارية أصرت على إجهاض التجربة الثورية التحررية العربية، وأخفت مشاركة الدول الكبرى لتبدو إسرائيل فى الواجهة، بينما اختفى اللاعبون الحقيقيون، ونخرج مما سبق بأن القوى العالمية لا تحتمل نهضة مصرية عربية، بغض النظر عن سياستنا الخارجية التى تقوم على حسن الجوار والمسالمة.