رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التحرر كخيال مغامر.. «التفاحة لم تكن فاسدة»

التفاحة لم تكن فاسدة
التفاحة لم تكن فاسدة

لعل عدم وجود قوالب نقدية أو انطباعية سابقة التجهيز للنص الأدبي، أمرٌ مسلمٌ به، من حيث خلق كل نص لقراءته الموازية أو المحوِّمة حولَه، كما أن الأفكار التي تنطلق منها عملية الإبداع، غير معنية بتقديم حلول لمشكلاتٍ قائمة أو متكررة، بقدرِ اعتنائها بشكلٍ من أشكال الرصد، الذي ينتسبُ للفنِ والخيال، والقيمة الجمالية، والتعدد الأفقي والرأسي للذائقة، والارتداد للزمن والمكان، حتى أمام الثيمات المعتادة.. حيث تخضع للمتغير الطارئ والبادي في سماتٍ منها تعدد الدلالات، البناء السردي أو الشعري، الرمز، المجاز، الشخوص، لحظات التنوير، وما إلى ذلك.. أي أن هذا المتغير يمثل الاختلاف في آلية التناول للثوابت، أو إزاحتها إلى زوايا رؤى مغايرة.

ومن هنا يمكن النظر في رصد هذا الهم النسوي في مجموعة "التفاحة لم تكن فاسدة" للقاصة سارة طوبار، والصادر في مئةٍ، وخمسٍ وثلاثين صفحةً من القطع المتوسط.

وعلى الرغم من جدل ممتد بين حين وآخر، حول هذا المفهوم "الكتابة النسوية"، ورفض البعض له، وقبول آخرين بشروطٍ وتعريفاتٍ ربما، فلا جدالَ أنه متحقق بصورةٍ ما، ولو بأطروحاتِه في السياقِ الجدلي، ودون تعريفٍ دقيق، سوى التأرجح بين هل هذا التعبيرُ لا يزالُ قائمًا أم يتآكل؟ وهل هي كتابة المرأة المبدعة، أو مجموعة من الكاتبات مثلما حدث من بلورة أفكار في جماعاتٍ نسائية بمسميات دالة على ذلك، وإن لم تنضج التجارب أو تكتمل.. وما بين الكتابة المعنية بهموم وهواجس وأحلام وتطلعات المرأة، حتى لو كان مبدعُها رجلًا، "مجهولات" باتريك موديانو، و"ورد" صنع الله، مثالين، وآخرين.

وتبدو هناك نزعةٌ ذاتية، ولو في دلالتها الشكلية من حيث صوت الراوي الواحد من داخل الأحداث، يكسرُ تأثيرها هذا التنوع في استخدام الدوال بين المفردةِ والمشهد، فضلًا عن الانحياز لإيقاع السرد على التداعي أحيانًا، وعلى حس الشعر الذي بدا في أكثر من قصةٍ، والنظر إلى الذات من خلال أحداث كبرى والعكس مثل الحرب.. ومن ذلك كله نجدُ تكرارًا عفويًا لمفرداتٍ مثل "ونس" التي تشي بالافتقاد والغربة في سياقاتها: "أبحثُ عن ونس"، "كان الونسُ في تلك الليلةِ وحيدًا تمامًا"، وتبرزُ الحربُ في قصة "مقعد وحيد"، كسبب مباشر في هذا الافتقاد، وكذا تأثير العام في الخاص، وربما في مآلِ هذه المرأة إلى القهر أو الحزن أو أي من النتائج.. مثل هذه الرسائل التي تُكتبُ على أنقاضِ الخراب.. "حبيبي، لا أعرفُ إن كنت حرًا أو غير ذلك، لكنني أستشعرُ روحك كلما جئت هنا أكتبُ إليك وأبكيك، هم يعتقدون أنني أبكي خرابًا برائحة الدم، على حال بلادنا الخضراء، ولكنّ غيابك أعتم روحي".

في قصةِ "الفرار من كابوس امرأة"، نجدُ هذا التوازن في النظر إلى المرأةِ بوصفها بشريًا خاضعًا للخير والشر والمتناقضات، والصراع مع النفس أو محاورتها، بعيدًا عن حدةِ النزوع إلى الملائكية .. "كانت تشبهني جدًا لكنها ترتدي حجابًا أسود، أمسكت قلم ألوانٍ أخضر أو لعله أزرق لا أذكر تحديدًا، اقتلعت السن المدبب الملون من الخشب، وغرسته في صدري وهي تبتسم".

كذا تبدو اختيارات الرموز دقيقةً فيما يتعلقُ بالفعل ورد الفعل تجاه الأحداث، مثل هذه المومياء التي تمثل تصورًا موازيًا للشخصية في حالةِ انهيارٍ وتمردٍ عليها.. "لكنني فجأة وجدتُني بين شظايا تتطاير في الهواء ثم تفترش الأرض، كل ما طالته يدي رفعته عاليًا، ثم ألقيتُ به بكل عصبية ليصبح حطامًا، تهشمت موميائي التي ظننتُ أنني برعتُ في تحنيطِها طوال سنواتي الثلاثين الماضية"، وقد تمتد هذه المومياء إلى ندبةٍ توازي بدورها مساحةً من الندم أو الألم رغم الإحساس بالتحرر.. "عزيزي.. ليس لي ظروف، كل ما في الأمر أنني امرأة حرة وسعيدة تفعل ما تريد" "امرأة لا يضايقها سوى ندبة ما في وجهها".

وما بين الاضطراب والتوازن النفسي للشخصية الرئيسية في مجمل القصص، تُحافظُ اللغةُ على إيقاعها السارد، واعتماد آلية الجمل المقتضبة، مستوعبة للدوال المتنافرة رغم تقليديتها مثل "الحجاب" كتفصيلةٍ تتحقق بصورةٍ أكبر في مشهد ممتد، وتقابله الشرفةُ كتطلعٍ إلى الفرار، حتى من الذات المنكسرة غير المتمردة.. "أتناول قهوتي بشرفةٍ، لا تطلُ على جثث متراصة تراقبني بدأب"، وما بين الدوال نجدُ الأم كسلطة والحرب والزوج والأخت والصديقة والبيت والوقت، وغيرها عناصر مساعدةً أو مؤكدة للهزيمةِ والمقاومةِ معًا، وربما تُقبلُ كسمةٍ غير ضرورية في التجربةِ الأولى بعض مُشكلاتٍ شكلية في أخطاء النحو وتأثيره على المعنى، فضلًا عن قليلٍ من عدمِ ثقةٍ في تفاعلِ المتن والتنقلات خلاله لإبراز رؤيته، ووضع بداياتٍ ونهاياتٍ يمكن الاستغناء عنها مثل ما جاء في قصة "انصهار".. التي تبدأ بـ"دائمًا يحتاج الآخرون إلى شروحٍ ومبررات"، في حين أنه يمكن تتبع النص من الجملةِ التالية مباشرة "لماذا لا يوافق على إجازتي دون الخوض في تفاصيلَ لا تهمه؟ الحر يزيدُ من عصبية الجميع وعدم تركيزهم...."، ومع هذا يستوعب هذا المتن مهاراتٍ مختلفة منها هذا التقاطع الزمني والتنقل بسلاسةٍ من مشهدٍ لآخر مع جعلهما في دائرة التوازي في الرصد والتأثير وكذا التصاعد الدرامي خلال ذلك، ففي قصة "الأمنياتُ الأخيرة لا تكتمل" يبدأ اليوم مناسبًا للسفر بدفءٍ وشمس، ثم يُخيمُ الصمت على ميكروباص بعد حادثة، ليستجمع الصوت الرواي جميع المشاهد والأصوات والحركة في لحظاتٍ معدودة يتخللها أسئلة وجودية، وعتابٌ وأحكامٌ تقريرية، وحوارٌ تقتربُ معه نتيجة تأمل هذا السفر المعنوي.. "لو كنت أمتلك المزيد من الوقت ربما أقنعتك أن ما بيننا يستحق محاولات أكثر ليتقبل كل منا الآخر كما هو، وأن العلاقات الناجحة لا مكان للتضحيات فيها، التضحية ضعف، وبقدر الحب تتحرر أرواحنا وتصبح أقوى، أقوى في مواجهةِ العالمِ بأسره، لا مواجهة بعضنا البعض، الم أخبرك أنهم يأتون بعد فوات الأوان، ها هم ينتشلون جثثنا بقليلٍ من المبالاة، وبكثير من التعود، يضعونها في سيارات الإسعاف ويرحلون".

"التفاحةُ لم تكن فاسدة"، محاولةٌ جيدة للفكاك من أسر تقليدي، بتناولٍ فيه قدرٌ من المغامرة والخيال وامتزاج اللاوعي بالواقعِ، وتأثير التفاصيل في حدث مثقل بالتحرر، وتشي ـ حتمًا ـ بالتخفف منه وتحقيقه بصورةٍ أكثر وضوحًا وتنوعًا في تجاربَ مُقبلة.