رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إغماض العينين

جريدة الدستور

يخرج من بيته.. يمر داخل محطة القطارات نحو الجهة الأخرى.. يتأمل العجوز الجالس بجوار كشك السجائر والحلويات والمياه الغازية فوق رصيف المحطة.. يُخرج موبايله ثم يكتب فى «قائمة المهام»: (العجوز صاحب الكشك فى المحطة ذكرياته).. يعيد الموبايل إلى جيبه.. يتمعن أثناء عبوره الميدان فى الشبابيك المظلمة لبنسيون قديم مهجور.. يُخرج موبايله ثم يكتب: (بنسيون الميدان معلومات).. يُعيد الموبايل إلى جيبه.. يقف للحظات أمام بائع الجرائد.. يلمح عددًا من مجلة «الشباب» يشير غلافه إلى حقبة التسعينيات مُلقى فى زاوية مهملة وراء الكتب المصفوفة.. لا يشتريه، وإنما يقف على بُعد خطوات ليخرج موبايله ثم يكتب: «أرشيف مجلة «الشباب» فترة التسعينيات، خاصة السنوات الأولى».. يعيد الموبايل إلى جيبه.. يستقل «تاكسى».. يشاهد فى الطريق واجهة المقهى اليونانى العتيق.. يُخرج موبايله ثم يكتب: «تاريخ المقهى اليونانى، وتاريخ اليونانيين فى المدينة، وجميع الجاليات الأجنبية».. يُعيد الموبايل إلى جيبه.. يصل إلى المكتبة.. يستفسر عن كتاب.. لا يجده.. يتجوّل قليلا فى الداخل.. يصادف مجموعة روايات «دان براون».. يفكر فى أنه يريد شراءها رغم امتلاكه نسخًا إلكترونية منها على «اللاب».. يؤجل الشراء ويغادر المكتبة.. يقف فى الشارع ليُخرج موبايله ثم يكتب: «تاريخ الأدب البوليسى».. يُعيد الموبايل إلى جيبه.. يتذكر شيئًا فيخرجه ثانية، ويضيف: «وأدب الرعب والخيال العلمى أيضًا».. يُعيد الموبايل إلى جيبه.. يفكر فى أنه سبق أن دوّن هذه الملحوظة من قبل أكثر من مرة على مدار السنوات الماضية، ولكن لا بأس من تأكيدها.. يستقل «تاكسى».. بعد دقائق تشير بنتان إلى السائق.. يتوقف فتسألانه عن مكان يقع فى نفس الاتجاه.. تركبان فى الخلف.. تتبادلان كلمات مقتضبة يفهم منها أنهما طالبتان جامعيتان، وأنهما عضوتان فى فريق التمثيل بالكلية، وأنهما عائدتان للتو من بروفة مسرحية.. يُخرج موبايله ثم يكتب: «تاريخ المسرح الجامعى فى المدينة».. يُعيد الموبايل إلى جيبه.. يبتسم وهو يفكر فى أن شخصًا آخر ما كان سيُخرج موبايله فى هذه اللحظة إلا ليسجّل رقمى هاتفى البنتين، بعد أن نجح فى استغلال حديثهما للتعرّف عليهما ـ ككاتب مسرح مثلًا ــ وتبادل الضحكات معهما.. ينزل من التاكسى.. لا ينظر إلى البنتين.. يدخل صالة الاستقبال بفندق ميدان المحطة.. يجلس كعادته بجوار النافذة الزجاجية الكبيرة.. يشاهد رجلًا خليجيًا جالسًا على طاولة قريبة.. يتلفت بحثًا عن الوجوه المألوفة لسماسرة المتعة.. يلمح أحدهم واقفًا فى قاعة الطعام.. يُخرج موبايله ثم يكتب: «تاريخ الجنس العربى فى فندق ميدان المحطة، خاصة فى الثمانينيات والتسعينيات».. يضع الموبايل أمامه فوق الطاولة.. يطلب «كابتشينو» ثم يراقب العابرين فى الميدان عبر النافذة.. تلمع فى ذهنه فكرة هذه القصة.. يلتقط موبايله ثم يكتب: «يخرج من بيته.. يمر داخل محطة القطارات نحو الجهة الأخرى».. يعيد الموبايل إلى جيبه.. يُنهى فنجانه ثم يغادر الفندق ليرجع من نفس الطريق إلى المنزل.

كان يجب أن يكون هذا الليل أكثر نعومة، وأن يكون ما بين هذين الذراعين أكثر اتساعًا.. كان يجب على هاتين العينين أن تكونا وراء نظارة ذات عدستين سميكتين، وأن توجد حسنة سوداء صغيرة تحت إصبعى فى هذه الذقن.. كان يجب أن يكون فيلم التليفزيون الذى أنصت ناعسًا لأصواته الآن هو «رحلة السندباد السابعة».. لكنه لا يزال ليلًا، وطفلتى الصغيرة لا تزال أمى التى عادت فى جسدها الجالس أمام التليفزيون لتحتضن رأسى.. كان يجب أن أستمر فى إغماض عينىّ حتى أنام، ولكننى أفتحهما سريعًا؛ إذ يبدو كل شىء كأنما سيجعلها الإغماضة الأخيرة.