رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ما بعد الاستفتاء التركى.. جُحا وحمار الملك


انتهى مولد السلطان الأكبر فى إسطنبول باستفتاء على توسيع صلاحيات الرئيس والتحول لنظام رئاسى، فضحت نتائجه الهزيلة عمق الانقسام فى الشارع التركى، وصعّدت من اتهامات التزوير والتلاعب بالأصوات، كما أعلنت الأحزاب والتيارات المعارضة.. وكما شككت لجان مراقبة أوروبية طالبها أردوغان بأن تخرس.!

لا ينكر محايد أن أجواء الاستفتاء ـ قبل تمريره ـ كانت قمعية بكل المقاييس، استبقها أردوغان بالعديد من الإجراءات التعسفية بزعم مسرحية الانقلاب الشهيرة قبل أشهر، والتى انتهزها لتصفية خصومه السياسيين بشكل غير مسبوق على الساحة التركية، ورغم كل الحشد الهائل الذى رأينا فيه عناصر من قيادات جماعة الإخوان الهاربة، وهى تروِّج للسلطان الجديد، وتكرر نفس أسطوانة الاستفتاء المصرى بعد فوضى يناير، بأن التصويت بـ«نعم» هو انحياز للإسلام وتحقيق لمشروع الدولة الدينية.

وبدا واضحًا منذ فترة طويلة أن أردوغان يعمل بنفس العقلية الإخوانية الساعية لـ«التمكين» وقمع المعارضين وخلخلة مفاصل السلطة، مستفيدًا بالطبع من درس التجربة الإخوانية الفاشلة فى مصر، وكانت نتيجة الاستفتاء الهزيلة ليس ما أعلنه عن «فوز تاريخى»، ولكن بوادر الانشقاق الوطنى يتواجه فيه الأتراك فى صراع يصعب التنبؤ بمساراته وتوابعه وأيضًا نتائجه.

صحيح أن النتيجة بمجملها أعطت أردوغان ما يريده ويسعى إليه وجعلته «ديكتاتورًا» بنص الدستور المعدل «مثل إعلان مرسى الدستورى الشهير»، لكن ما قاله رئيس وزرائه بن على يلدريم، ودعوته المعارضة للاحتكام للقانون بدلاً من اللجوء للشارع، هو ما يكشف عمق النار الكامنة خلف الرماد حاليًا، والمخاوف الراهنة لدى النظام السياسى من تبعات قاسية وغير متوقعة. ذلك أن ردود الأفعال داخليًا وخارجيًا مرشحة للتصاعد بقوة وربما تُفضِى لنتائج خطيرة حاليًا ومستقبلاً.

وهنا أيضا، لا يمكن تجاهل الرسالة الجديدة التى وجهها أردوغان للجميع، بزيارته قبر السلطان سليم الأول، مُرتلًا فاتحة الكتاب، كأنما يخبر السلطان الجاثمَ فى قبره أن أيام التاريخ المجيد قد عادت، وأن أطراف القسطنطينية وما حولها باتت قريبة منه، فى رسالة سُلطانية واضحة.. عكس ما كان يفعل سابقاً بزيارة قبور زعماء سياسيين سابقين، من كمال أتاتورك إلى أربكان وعدنان مندريس وتورجوت أوزال.. حيث بدا واضحًا الرمزية المقصودة، التى تقول ببساطة إن تركيا من الممكن أن تعود إمبراطورية عثمانية مرة أخرى قبل عام 2023، الذى يمثل الذكرى المائة لإنهاء الخلافة. وهذه وحدها ـ رغم رمزيتها ـ قد تبدو مخيفة للأوروبيين أكثر من نتائج الاستفتاء نفسها، إلا أن مردودها لم يظهر بعد.

لكن السؤال الذى يطرح نفسه بشدة: هل فعلًا يريد أردوغان دخول التاريخ وتحويل تركيا إلى إمبراطورية عثمانية مرة أخرى قبل عام 2023؟ تبدو الإجابة بنعم فى نظر كثيرين عبر رؤية الأمور من منظار أوسع يرصد صعود أحزاب اليمين المتطرف فى أوروبا.. ويرصد أيضًا سلوكيات وتصرفات ديكتاتور تركيا الجديد، الساعى لفرض سياسته فى فرض الاستقرار بـ«الهيمنة»، وهو المصطلح المقابل لمشروع التمكين الإخوانى الشهير، وما اعتقاله لقرابة 50 ألفًا وفصل 140 ألفًا آخرين من قضاة ومعلمين وموظفين، وسجن أكثر من 100 صحفى وإعلامى، إضافة لـ«تشليح» جيشه، إلا جزءاً من هذه الهيمنة.

نحن إذاً، أمام حالة «إخوانية» بامتياز، وفى قلب معقل العلمانية التركية، يكرِّر فيها أردوغان بعقليته الانتهازية ذات الأخطاء الإخوانية بصورة طبق الأصل.. وكما قال بعض المحللين، فقد «وقف إلى صف جماعة الإخوان فى مصر التى بادرت بمحاولة تنفيذ أوهامها بالتمكين والاستيلاء على مفاصل الدولة، ورفض معهم الإقرار بفشلهم وبلفظ الشعب المصرى لهم، وأصرّ معهم على اعتبار إزاحتهم عن الحكم مؤامرة، وأيدهم ولايزال، ثم أضاف بهذا الاستفتاء وما بعده إصراراً على المضى فى التمكين وكأنه يمكن أن تكون لهذا نتائج أخرى».!

هذه النتائج بالتأكيد تذكرنا بالقصة التاريخية الشهيرة لجحا «وبالمناسبة يُقال إن أصله تركى» والملك والحمار.. ابحثوا عنها وتأملوها، يمكن أن تكون مدخلاً لفهم الحالة الأردوغانية؟!