رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خط أحمر


الجدل المحتدم، الدائر الآن، حول موضوع التعليم فى مصر، يُثير أكثر من قضية، منها ما يخص «محورية»، أو «مركزية» هذه القضية بالنسبة لعموم المصريين، على غير ما يعتقد أو يظن البعض.

فمن المعروف أن الأسر المصرية، خاصة تلك التى تنتمى للطبقة الوسطى، أولت مسألة التعليم، منذ أوائل القرن الماضى، وبالذات مع ولوج بوابة النصف الثانى منه، اهتمامها البالغ، باعتبار أن التعليم، الذى عدّهُ الرائد الكبير «طه حُسين»: «كالماء والهواء وحق لكل مواطن»، كان هو الوسيلة الأساسية للصعود الاجتماعى والترقى الطبقى، حين كان التفوق العلمى، والحصول على المؤهل الدراسى، هو ضمانة التمتع بميزات الوظيفة الثابتة، وربما المرموقة، فى الجهاز الحكومى، وبما يكفل تأمين أسباب الحياة، ولو فى حدّها الأدنى، ومن هنا كان المثل الذائع الصيت: «إن فاتك الميرى اتمرغ فى ترابه»، وهو مثل ازداد مضمونه رسوخا فى ظل سياسات «التوظيف» الواسعة التى سادت فى عهد الرئيس «جمال عبدالناصر»، وفى ظل الاهتمام الكبير الذى أولته الدولة والمجتمع، آنذاك، لشعارات «العلم والعمل»، أيا كانت الملاحظات عليها!.

وعلى الرغم من التدهور العام الذى حاق بفكرة ووضعية العمل والتعليم، ومن تراجع مكانتهما وأولويتهما، على جدول اهتمامات الحكم والمواطنين، بسبب انتهاج برامج سياسية واقتصادية واجتماعية مُغايره، بعد وصول الرئيس «السادات» للحكم، وفى ظل صعود قيم «الانفتاح»، وكسب المال والمنفعة من أى طريق، ليس من الضرورى أن يكون من بينها طريق العلم الحقيقى والعمل الشاق المُنتج، ورغم انهيار مردود العلم على المتعلمين، وانتشار البطالة، والممارسات المترتبة على شيوع الفساد والمحسوبية، والآثار المدمرة للأزمة الاقتصادية الشاملة، وانعكاسات «تعويم» الجنيه المصرى على ملايين الأسر من محدودى الدخل، ... على الرغم من ذلك كله فقد ظل التعليم يحتل مكانا بارزا فى الوعى الجمعى المصرى، وفى إنفاق الأسر المصرية، وظل حرص الكثيرين من الآباء، وحتى من أضعف وأفقر الطبقات، على تعليم الأبناء، مهما تكبّدوا من مشاق، وتحمّلوا من أعباء- قائماً!.

لهذا كله نفهم لماذا صدم تصريح وزير الصحة، الدكتور أحمد عماد، غالبية المواطنين، والذى أعلن فيه رأيه، بأن «سبب تدهور منظومة الصحة والتعليم هو مجانية التعليم، التى نفذها الرئيس جمال عبدالناصر»!.

فمن الخطأ البيِّن تحميل منظومة التعليم المجانى، كامل المسئولية عن تردى حال التعليم والخدمات الصحية، فالوزير نفسه درس وحصل على شهاداته، وعالج مشكلاته الصحية، من خلال هذه المنظومة، وهناك الملايين غيره، ممن تعلموا فى ظلها، ونالوا تعليما مُعتبرا، اعترف به العالم كله، وخرجوا بما حصلوه من علمٍ، بواسطتها، إلى العالم كله، فنجحوا، وأثبتوا وجودهم ووجود هذه المنظومة، قبل أن تُصاب بالعطب، لا بسبب عيب جوهرى كامن فيها، وإنما لأسباب خاصة بسوء الإدارة، وضعف التأهيل، وغياب الكفاءات، وضعف أجور المدرسين، وقلة الاعتمادات المالية، .. وغيرها، من أسباب، فى مقدمتها الفساد الذى ضرب الكثير من قطاعات الدولة، ومنها مؤسستا الصحة التعليم، وآخر مظاهره تسمم الآلاف من التلاميذ بسبب الوجبة الغذائية!.

والأخطر فى حديث الوزير أنه يتجاهل أن «مجانية التعليم» منتشرة فى أغلب دول العالم، حتى تلك الرأسمالية التوجه، كما أن إعلانه، الآن، يواكب تصريحات دائمة التردد على ألسنة المسئولين، بأن حل مشكلات التعليم يقتضى وقتا طويلا وتكاليف مالية أكبر، كمبرر لإهمال وتأجيل إصلاح منظومته، وكمقدمة لـ«خصخصة» خدمتى التعليم والصحة!..انتبهوا أيها السادة، فالمساس بمجانية التعليم والصحة خطٌ أحمر، و«خصخصتهما» تزيد من فقر المجتمع، وجهله وتردى أحواله، وتُفاقم أسباب الاحتقان والغضب والثورة فى جنباته!