رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أوجاع المفرج عنهم بالعفو في «سجن الحياة» (تحقيق)

جريدة الدستور

تزين وزارة الداخلية قرار الإفراج عن السجناء بالعفو، سواء كان شرطيًا أو رئاسيًا بعبارة: «تهتم الوزارة برعاية المُفرج عنهم وأسرهم كى يعودوا فئة صالحة فى المجتمع، بعد أن أعجزهم طريق العصيان وجعلهم فى أمس الحاجة إلى يد رحيمة تبعدهم عن طريق الجريمة والانحراف».

ورغم بلاغة الكلمات، وما تعطيه للسجناء المفرج عنهم بالعفو، والممنوحين شهادات بحسن السير والسلوك، من أمل فى بدء حياة جديدة تستقبلهم بابتسامة وصدر رحب إلا أنهم فى الواقع يصطدمون بسجن آخر يحرمهم من أبسط حقوقهم، ويهربون وسط مطاردات لا تنتهى، بعضهم يُحرم من فرص الحصول على مصدر رزق، وآخرون يتركون سكنهم هاربين من بطش مُطارديهم الذين يريدون الثأر منهم.

«الدستور» ترصد قصص بعض من هؤلاء «المعذبين» بقرارات الإفراج بالعفو، والممنوحين شهادات «حسن السير والسلوك»، ممن كان تقويمهم وصلاحهم واتجاههم للصراط المستقيم سببًا فى بدء «حياة تعيسة» خارج السجن، على عكس ما يظهره خروجهم بذلك «العفو».


أبناء عمه يطاردونه بسبب الثأر.. وأولاده لا يذهبون إلى المدارس خوفًا من الاختطاف

فرحة عارمة تسللت إلى قلبه بعد أن علم بقرار الإفراج عنه، لم يتخيل أنه سيعود إلى أحضان زوجته وأبنائه مرة أخرى، يأكلون سويًا من ذات الطعام، وينامون تحت سقف واحد فى أمان، ودع زنزانته وأصدقاءه المسجونين، عازمًا على أن يبدأ حياة جديدة بعيدة عن العراك الذى كان سببًا فى سجنه.

أحلام كثيرة ظلت تداعبه عقب الإفراج عنه بلحظات، لكنها سرعان ما تحولت إلى «كوابيس» مفزعة مع أول خطوة خطاها بقدميه خارج السجن، إذ اصطدم بمطاردات أبناء عمه الذين عزموا على قتله للأخذ بثأر شقيقهم.

أشرقت شمس عيد الشرطة وثورة 25 من يناير، لتنير طريق «رضا عزب»، وتصحبه خارج السجن ضمن المُفرج عنهم بقرار عفو، إلا أنه وجد أبناء عمه فى استقباله عقب عودته للمنزل، حيث اعتدوا عليه بـ«سكين كبير» أصابه بجرح عميق فى ذراعه.

يقول «رضا»: «عيال عمى، كانوا عاوزين يهدوا البيت ويبنوه من جديد وأنا على قد حالى ومش معايا فلوس وحصلت خناقة ومسكنا فى بعض بسبب الورث، وحد حدف قالب طوب كبير من ناحيتهم جه فى دماغ ابن عمى ومات واتهمونى إنى قتلته».

ويشير الرجل الثلاثينى إلى أنهم سرقوا عربته «الكارو» وأحرقوا حصانه واعتدوا على زوجته وأبنائه، ما أدى إلى تفاقم المشكلة بينهم، لافتًا إلى أنه أُلقى القبض عليه بتهمة القتل، لكن التحريات أثبتت أن الحجارة التى أصابت ابن عمه لم تكن منه، وبالتالى تم تخفيف العقوبة لتصل إلى 7 سنوات.

يضيف: «قضيت نص المدة فى السجن وكنت فى حالى ومش بعمل مشاكل ويوم عيد الشرطة وذكرى الثورة أفرجوا عنى وخدت شهادة حسن سير وسلوك وكنت فرحان وقولت الناس هتساعدنى بالشهادة، وفكرت إنى هبدأ صفحة جديدة وهشتغل وأربى عيالى، لكن عيال عمى بيطاردونى فى كل مكان».

ترك «رضا» مسكنه بمنطقة «أم المصريين» كى يبتعد عن مشاجرات أولاد عمه وذهب بأسرته إلى مدينة «السادس من أكتوبر»، لكنه اصطدم بهم هناك: «ضربونى واتهجموا على مراتى وعيالى أول يوم رمضان، الناس كانت بتفطر وإحنا فى القسم بنعمل محضر».

لم تقتصر الأزمات التى واجهها «رضا» عقب الإفراج عنه على مطاردة أبناء عمه فقط، وكان البحث عن مهنة يعول منها أسرته بمثابة مشقة كبرى لم يجد لها حلا. يقول: «أنا شغال فى المبانى، وكل ما أروح لحد يرفض يشغلنى، عشان عارفين إنى ممكن أسيب السكن فى أى وقت بسبب عيال عمى». واجهته كذلك صعوبات فى الحصول على غرفة يقطن بها برفقة أسرته، مؤكدًا أن جميع المُلاك رفضوا تسكينه بعد أن علموا قصته مع أبناء عمه: «خايفين يحصل حاجة ونمشى ومندفعش الإيجار، قعدت أنا ومراتى وعيالى عند حماتى، واخواتها رافضين وكل شوية يطردونا من البيت، ومحدش واقف معانا».

بدأت الحياة تُظلم رويدا رويدا فى وجه «رضا» بعد امتناع أبنائه عن الذهاب للمدرسة: «خوفت عليهم، لأنهم هددونى بخطف العيال، ومن ساعة ما مشينا مش عارف أنقلهم الورق، عندى ولدين وبنت وكلهم سابوا المدرسة، مكنتش أعرف إنى لما هخرج هعيش فى سجن أصعب من اللى كنت فيه، ياريت المسئولين يحسوا بينا، أنا اتحبست ظلم ومش ذنب عيالى يتبهدلوا معايا ومستقبلهم يضيع».


12 سنة عايز كشك.. والحكومة آخر طناش

استقبل الحياة بصدر رحب، وقرر أن يسلك الطريق الصواب فور الإفراج عنه، ظل يطوف بشهادة حسن السير والسلوك التى منحتها له مصلحة السجون على أمل استخراج رخصة كشك يعول منه أسرته، لكن جميع محاولاته باءت بالفشل، ليظل لقب «مسجل خطر» ملاصقًا له طوال العمر، ويجد نفسه فى أحضان سجن آخر أكثر قسوة، يرفض توبته.

يقف «حسين بسيونى» فى أحد شوارع منطقة «بيجام» التابعة لشبرا الخيمة، يحمل برفقته جميع أوراقه على أمل إيجاد من يساعده فى الحصول على فرصة عمل، تبدو على وجهه علامات الغضب، وكأنه يريد أن يبكى ويصرخ فى آن واحد: «كنت شغال بتاع دوكو قبل ما اتسجن، خدت 5 سنين مخدرات وخرجت بشهادة حسن سير وسلوك، لقيت نفسى عاطل والدنيا ملطشة فى وشى فضلت أدور على شغل ومحدش رضى يشغلنى عشان كنت محبوس».

12 عامًا مضت على خروج الرجل الأربعينى من السجن، لم تطأ فيها قدماه قسم شرطة، ولم يرتكب ما يدل على أنه مجرم: «12 سنة ماشى جوا الحيطة لا حد خدنى تحرى ولا رجلى لمست باب القسم، بقالى 12 سنة عاوز أطلع رخصة للكشك ومش عارف، روحت للمحافظ ادانى تأشيرة محدش بيعتمدها، وبوست إيديهم والله العظيم عشان يساعدونى أعمل كشك وآكل لقمة حلال، وكلهم بيقولولى إنت مسجل خطر ملكش حاجة عندنا وشهادة حسن السير والسلوك تبلها وتشرب ميتها». يعانى «حسين» من «الغضروف»، وأكد الطبيب أنه فى حاجة إلى عملية: «بيقولى العملية بـ12 ألف جنيه وأنا مش معايا 12 تعريفة ومعايا 3 بنات مش عارف أجهزهم وابنى خرج من المدرسة، ومراتى بتشتغل فى مصنع يدوب بناكل من فلوسه». يتذكر اليوم الذى استلقى فيه على رصيف الحى وغرق فى سبات عميق أثناء انتظاره رئيس الحى: «وريته الورق اللى خدته من القسم قالى مليش دعوة بيه، وبتوع مجلس الشعب قالولى هنساعدك عشان تبقى كويس وتبعد عن الحرام وأول ما خرجت محدش عرفنى، لدرجة إنى بوست إيد رئيس الحى والله عشان يعملى رخصة ورفض».

فقد وظيفته نهائيًا ودخل «مستشفى المجانين»

جلس «إسلام محمد حسنى» داخل زنزانته فى سجن وادى النطرون، غير مصدق أنها ليلته الأخيرة ما بين الجدران الأربعة، وبدأ تخيل حياته بعد «الإفراج»، معتقداً أنه سيعود إلى وظيفته مرة أخرى، وأن الحياة ستبتسم له أخيراً، لكنه صُدم بخسارة وظيفته، ووضعه رفقة نزلاء مستشفى العباسية للأمراض العقلية.

عام و3 شهور مرت على خروجه من السجن، بدأها بكشك شاى صغير، بعد فشل محاولاته العمل بإحدى شركات البترول. يقول: «عملت الكشك، وبعد أسبوعين الحكومة هدّته ووقّعوا الحاجة على الأرض وكسروها ونزلوا فيّا ضرب قدام الجيران، ومنظرى كان وحش وصعبت عليا نفسى، ومن يومها جاتلى حالة نفسية».

قضى الشاب الثلاثينى يومًا بقسم شرطة الأزبكية، حاول أن يتفاوض فيه مع رئيس المباحث كى يسمح له بالعودة إلى الكشك، لكنه رفض: «قولتله يا باشا مش عارف أرجع شغلى وعاوز حاجة آكل منها عيش قالى مليش دعوة، ولما كشفوا على البطاقة القضية بتاعتى مظهرتش لأنها أول مرة أتحبس فيها، لحد ما أبويا جه وطلعنى بالعافية».

ويوضح أنه سُجن 5 سنوات و3 أشهر بتهمة القتل إلا أن حُسن سلوكه داخل السجن أمكنه من الحصول على عفو رئاسى بعد أن قضى نصف مدة حبسه.

وأجرى «إسلام» محاولات عديدة للعودة إلى وظيفته بشركة البترول، لكن جميعها باءت بالفشل، لافتًا إلى أنهم أخبروه فى الشركة بأن عودته فى حاجة إلى «واسطة» كبيرة: «قالولى لازم واسطة من عضو مجلس شعب عشان أرجع». ويشير إلى دخوله مستشفى الأمراض النفسية، يقول: «من الظلم اللى بشوفه جاتلى حالة نفسية واتحجزت شهر مع المجانين».

ويلفت إلى أن نظرة المجتمع إليه هى السبب فى تدمير مستقبله وإصابته بحالة نفسية: «المجتمع شايفنى مسجل، بس أنا ابن ناس ومتعلم وعاوز أمشى صح وكل ما أقدم على وظيفة محدش عاوز يقبلنى، مش عشان اتحبست ظلم الدنيا تعمل فيّا كده، أنا إنسان ونفسى أعيش وآخد فرصة فى الحياة، الموت أهون عليّا بكتير من اللى أنا فيه، بس ربنا هو اللى شايف وهييجى يوم ويعدل».


الحصيلة هروب وخراب ديار

الثالثة فجرًا، توجه بالتاكسى إلى الجراج، ثم عاد إلى منزله بعد أن أنهكه التعب، تسلل إلى أذنيه أصوات صراخ، وعندما اقترب وجد تجار المخدرات يتشاجرون مع شقيقه الأصغر بالأسلحة البيضاء، لاعتراضه على بيع المخدرات أمام المنزل، وبدأ صوت الطلقات النارية يتصاعد، حتى نالت من أحدهما ليلقى مصرعه فى الحال ويسقط قتيلًا، وسط صراخ وعويل من قبل نساء المنطقة.

ألقى القبض على «عبدالمنعم»، اسم مستعار، بتهمة القتل وحيازة سلاح وبلطجة، ليجد الشاب العشرينى نفسه بين ثنايا القضبان الحديدية، إلا أن تقرير المعمل الجنائى أنقذه من حبل المشنقة.

يقول: «لما شوفتهم بيضربوا أخويا دافعت عنه ولما الطلقة جت فى الراجل قالوا إنى قتلته، وشهادة الأهالى جت عكس تقرير المعمل الجنائى وده اللى أثبت إن طلقة الخرطوش مخرجتش من المسدس بتاعى وخدت حبس 5 سنين».

يؤكد الشاب العشرينى أن سلوكه الحَسن داخل السجن مكنه من الحصول على شهادة حسن سير وسلوك، وخرج بعد قضاء نصف مدته بالسجن: «فرحت إنى هخرج لأهلى، وطلعت بعد تلت أرباع المدة، لقيتهم مولعين فى البيت بالعفش كله وأهلى مشيوا من المنطقة وسكنوا فى شقة بالإيجار وخبوا عنى، وعرفت أن تجار المخدرات عايشين فى البيت اللى أبويا طفح فيه الدم عشان يعمله ويأمن مستقبلى أنا وأخويا».

يتذكر «عبدالمنعم» اليوم الذى ودع فيه زنزانته حيث كان صامتًا حزينًا، لم يخبر فيه أحدا من أسرته بموعد خروجه خوفًا من أن يلاحقه تجار المخدرات: «خرجت من السجن لوحدى وبعدها كلمت أهلى وعرفت مكانهم روحت ليهم، والتاكسى بتاعى أمى باعته عشان فلوس المحامى والكفالة اللى خرجت بيها، كان نفسى يستقبلونى قدام السجن وأحضنهم وأمشى رافع راسى لأنى محبوس ظلم، لكن خرجت زى الحرامى وكنت خايف حد يشوفنى لأنهم لو عرفوا إنى خرجت هيقتلونى».

بدأت مأساة الشاب العشرينى عقب الإفراج عنه بأسابيع، فكان يرى وجوه مطارديه فى كل شخص ينظر إليه، ظل الرعب يحاصره من كافة الجهات وتحولت حياته إلى كابوس مريع تمنى الاستيقاظ منه: «مش عارف أشتغل ولا أعيش حياتى أنا وأهلى، والناس نظرتها ليا إنى مجرم وقاتل، رغم إنى خرجت حسن سير وسلوك، حاسس إن السجن كان أرحم بكتير من اللى أنا عايش فيه، مش عارف هكمل حياتى إزاى وهتجوز وهشتغل إزاى».

حصل «عبدالمنعم» على دبلوم صنايع واستطاع شراء تاكسى لعمله بمهنة القيادة كى يعول أسرته: «عندى 25 سنة وشغال سواق وحوشت وربنا كرمنى واشتريت تاكسى أبيض أسترزق من عليه، لو الشرطة كانت قبضت على تجار المخدرات من الأول مكنش حصل كل ده، والمخبرين اللى بيبعتوهم للمنطقة بيشتروا مخدرات منهم وبيتستروا عليهم»، حسب قوله.


«السجون»: نخاطب الجهات الحكومية لتوفير فرص عمل لهم

يوضح اللواء مصطفى باز، المدير الأسبق لمصلحة السجون، أن هناك نوعين للإفراج، الأول «شرطى» ويكون بعد قضاء ثلاثة أرباع مدة الحبس، أما الآخر فهو «الرئاسى» ويكون بعد قضاء نصف مدة الحبس.

ويقول «باز»: «لو المواطن سلوكه خلال فترة العقوبة بيدل على أنه مواطن صالح، وإدارة البحث الجنائى قالت إن الإفراج عنه لن يتسبب فى أى تلف أمنى بيخرج، وبتحدد ليه بديل يصرف منه على نفسه»، مؤكدًا أن سلوك المواطن داخل المصلحة وتحريات البحث الجنائى يحددان هل يجوز الإفراج أم لا، وذلك لتشجيع زملائه الآخرين داخل السجن كى يسيروا على خطاه.

وأشار إلى أن هناك جرائم محددة يجوز فيها تطبيق الإفراج وهى القتل والتبديد والضرب والجرائم المتماثلة، أما المخدرات فيجوز إلا فى حالة الجلب، بمعنى ألا يكون للمسجون نشاط دولى بها أو يستقبل شحنات، أما جرائم الإضرار بأمن الدولة والرشوة فلا يجوز فيها الإفراج.

يضيف: «لما بنطبق الإفراج وبنمنح المسجون شهادة حسن سير وسلوك بنقدر ندير السجن بنوع من السيطرة، لإننا واخدين المسجون عشان نصلح منه ويعود للمجتمع كويس وميرجعش للجريمة تانى مش عشان نعذبه».

وأوضح أن قرار الإفراج يأتى عن طريق لجنة على مستوى عال تتألف من 11 عضوًا، منها إدارة البحث الجنائى وإدارة شئون المسجونين ومساعد وزير الداخلية لقطاع السجون: «اللجنة بتبت فى الحالات اللى تستحق الإفراج، وبيبحثوها ممكن يفرجوا عن 150 حالة، ومش كل واحد بيفرج عنه بياخد شهادة وهو ماشى، هو بيقدم طلب للمصلحة إنه ياخدها ولو اتوافق عليه بياخدها عشان ميكونش فيه تخوف من التعامل معاه، لما يقدم على وظيفة، هو الطبيعى إن الناس تخاف بس مينفعش يحكموا على سلوكه أنه وحش لمجرد إنه كان مسجون».

ولفت إلى أن الإفراج الشرطى يعنى أن يتم متابعة المفرج عنه من قبل قسم الشرطة ووحدة المباحث التابعة لمحل إقامته: «بيتابعوه فى الربع المتبقى من المدة، وبتعمل عنه تحريات وتعرف هل اشتغل ولا لأ وبيصرف منين وده عن طريق المخبرين وظابط المباحث، لكن صلته بمصلحة السجون بتتقطع عقب الإفراج عنه مباشرة». وأشار إلى أن الإدارة العامة للرعاية اللاحقة لديها حصر بالمفرج عنهم وتخاطب كافة الجهات الحكومية لأجل توفير سبل حياة كريمة لهم وفرص عمل، وتهتم برعايتهم عقب الإفراج عنهم، مختتمًا: «المفرج عنه لو تم ضبطه فى قضية تانية بيكمل المدة اللى باقية ليه من العفو، لإن احنا طلعناه عشان يبقى كويس مش عشان يمارس الجريمة تانى».


جمعيات «رعاية السجناء» تحتاج «رعاية» : التبرعات متوقفة منذ ثورة يناير.. ودعم الدولة لا يكفى

رغم وجود ما يقرب من 21 جمعية لرعاية السجناء على مستوى الجمهورية، إلا أنها غير قادرة دورها المطلوب، بسبب عدم وجود موارد مالية، وانعدام التبرعات، ما يمنعها من تدريب وإعادة تأهيل المفرج عنهم.

ويقول أسامة مصطفى، أمين صندوق جمعية رعاية المسجونين فى القاهرة، إن دور الجمعية هو مساعدة المفرج عنهم حتى لا يعودوا إلى الجريمة مرة أخرى، وذلك من خلال التواصل مع الجهات المعنية لتوفير فرص عمل لهؤلاء «السجناء السابقين».

ويضيف: «المجتمع بيبص بصة وحشة للمفرج عنهم، ولو أنا عندى إمكانيات فى الجمعية هساعدهم، لكن للأسف مفيش موارد ولا تبرعات بتيجى ليهم، لا من رجال أعمال ولا مؤسسات، ومفيش تبرعات تذكر دخلت الجمعية من ساعة الثورة».

ويشير إلى أنه فى حال توافر المساعدات تجرى الجمعية أبحاثا خاصة بكافة المفرج عنهم، وعلى أساسها يحصلون على المساعدة، ويقول: «لو عندى إمكانيات فى الجمعية وتبرعات، بشوف حالة المفرج عنه وأعمله بحث كامل، عشان أشوف أسرته وحاله، ممكن أساعد بكشك أو مواد حرفية، وساعات بنعمل دورات للأسرة بتاعته، على أعمال الخياطة وبنعلمهم عشان يقدروا يشتغلوا فى مصانع ويصرفوا على عيالهم».

ويشير إلى أن التبرعات كانت تأتى لهم عن طريق رجال الأعمال ومؤسسة الأهرام لكنهم توقفت منذ فترة، مشيراً إلى أن الجمعية تصرف لأسرة المسجون معاش قانون الطفل الذى تبلغ قيمته 56 أو 90 جنيها، ويضيف: «لو طفل فى المدرسة يتصرفله 40 جنيها شهريًا خلال السنة الدراسية بس، ولحد الثانوى، لكن لما بيدخل جامعة المعاش بيتقطع، ولو واحدة عاوزة تتجهز ونساعدها بتاخد معاش قانون الطفل».

وتنظم جمعية رعاية المسجونين للأسر دورات تدريبية تعلمهم بعض الحرف كى توفر لهم فرص الالتحاق بالعمل، ويرجع تأسيس جمعية رعاية المسجونين بحسب «أسامة» إلى عام 1966، وهى أكبر جمعية على مستوى الجمهورية فى هذا المجال، مضيفاً: «فى 21 جمعية لرعاية المسجونين فى مصر، وإحنا أكبر جمعية، ومشهرة من سنة 66». ولفت إلى أن دور الجمعية يشمل تأهيل المفرج عنهم نفسيًا ومجتمعيًا من خلال إخصائيين، لكن افتقارها للتبرعات يمنع ذلك: «المفروض الجمعية تجيب إخصائيين نفسيين واجتماعيين، عشان نأهل المفرج عنه يعيش ويشتغل ويمارس حياته، لكن مفيش فلوس».

ويلفت «مصطفى» إلى أن دور الجمعية يتلخص فى مساعدة أسر المسجونين فى إنهاء أى إجراءات تتعلق بصرف معاشهم أو الزيارات: «لو واحدة محتاجة طلب معين أو جواب إحنا بنساعدها فيه وبنوجهها»، مؤكداً أن هناك 1400 أسرة تصرف معاش الضمان الاجتماعى من خلال الجمعية.

ويتابع: «فى الأول كانوا بيصرفوه من عندنا لكن دلوقتى من البريد ولو فى إجراءات بتخلص من عندنا، ولو المسجون خرج برضه لازم يعرفونا ويجيبوا جواب عشان نشيل المعاش من عليهم، ومن ساعة ثورة ٢٥ يناير ومفيش أى تبرعات بتيجى لا مادية ولا إدارية».

ولم يختلف الأمر كثيراً فى جمعية رعاية المسجونين بمحافظة بنى سويف، التى تفتقر إلى التبرعات والدعم من جانب الدولة، ويقول محمد إسماعيل، مندوب الصرف بالجمعية إنهم يصرفون معاشا لأسرة المسجون لمدة سنة واحدة مع التجديد: «الأم وابنها بياخدوا 20 جنيها لمدة سنة وتجدد لأن المسجون ممكن يخرج فى أى وقت، ولجنة من مديرية التضامن الاجتماعى اللى بتحدد المعاش، وفى بحث اجتماعى بيتعمل والقيمة بتتصرف بناء على البحث، والإخصائى الاجتماعى اللى بيكتب».

ويضيف: «كل أسرة بتقبض من مكتب الشئون التابع ليها، وإحنا دورنا نجمع الأبحاث الاجتماعية بتاعتهم عندنا، وتيجى لجنة من الضمان الاجتماعى كل يوم 22 فى الشهر وتاخدها وتفحصها وبعد ما تخلص بتقسمها على شيكات باسم مندوب صرف من كل إدارة اجتماعية خاصة بالمركز».

وأوضح أن التبرعات توقفت عقب ثورة يناير، وفى 2015 تلقوا 40 ألف جنيه تبرعات، وهو رقم ضئيل مقارنة بأعداد المفرج عنهم وأسر المسجونين، مضيفاً: «اللى بياخد المساعدة أو المعاش بيمضى أو بيبصم قدام اسمه، وفى حالة وجود التبرعات الجمعية بتعمل ليهم مشاريع وبتديهم 500 أو ألف جنيه مساعدة أسر المسجونين والمفرج عنهم وإعفاء أبنائهم من المصروفات المدرسية».

وأوضح مندوب الصرف بالجمعية أن المفرج عنه يذهب إلى الجمعية ليؤكد أنه حصل على الإفراج ويأخذ 100 جنيه لكل عام قضاه داخل السجن: «لو قضى 5 سنين ياخد 500 جنيه مقابل الإفراج عنه لو بطاقته ضاعت يعملها لو مفصول من الشغل يفتح مشروع صغير أو يجدد ورقه ويحاول يرجع، ولو مقوم محامى يدفع ليه باقى الفلوس، لكن مفيش تعاون من الجهات المختصة، وفئة المفرج عنهم أكتر ناس مظلومين فى المجتمع».

وأشار إلى أن مديرية الشئون الاجتماعية تضع 15 ألف جنيه كل عام فى ميزانية الجمعية فى البنك لصرف المساعدات، قائلاً: «النظرة للمسجونين صعبة ومفيهاش رحمة، فى منهم ناس بتيجى الجمعية ومش معاها فلوس مواصلات تروح بيها».

«التضامن»: المعاشات للعاجزين فقط

كشف ياسر عبدالهادى، مدير إدارة التضامن الاجتماعى فى «المعادى»، أن الوزارة تساعد المسجون عقب الإفراج عنه ماديًا أو عبر إنشاء مشروع صغير يعول منه نفسه أو أسرته.

وقال «عبدالهادى» لـ«الدستور»: «لما بيخرج من السجن بيروح إدارة الرعاية اللاحقة الأول، ودور الوزارة تجاه المفرج عنهم إجراء بحث اجتماعى وصرف معاش حال إن كان المسجون لديه نسبة عجز».

وأوضح أن المعاش يتراوح ما بين 232 و360 جنيهًا فى حالة إن كانت الأسرة فردين، و413 جنيهًا إذا زادت على ذلك.

وأضاف: «لو مع أسرة المسجون أطفال بيكونوا ليهم منح مدرسية ومعاش من التكافل والكرامة اللى بيصرف للمعاقين واللى عندهم شيخوخة وعجز والأرامل».

وفيما يتعلق بإمكانية توفير وظائف للمفرج عنهم، أوضح أن الوزارة غير مختصة بذلك، وإنما هى مسئولية إدارة «الرعاية اللاحقة»، التابعة لمصلحة السجون بوزارة الداخلية.

حقوقى: لابد من حملة لتحسين صورة «السوابق»

يقول علاء شلبى، أمين عام المنظمة العامة لحقوق الإنسان، إن المجتمع يُعاقب المفرج عنهم مرة ثانية، ما يؤثر عليهم بشكل سلبى قد يدفعهم للعودة إلى الجريمة مرة أخرى، مضيفًا: «لازم نخلق ليهم أمل ونعملهم تأهيل وإصلاح وآلية تساعدهم للعودة للحياة بعد الخروج من السجن، ودى مرتبطة بتحديات ذات طبيعة اقتصادية، ولازم الدولة تساهم بأساليب بالتعاون مع وزارة الداخلية، ويكون فيه دعم وإعانة ومساندة ليهم، زى التبرعات ومساندة المجتمع المدنى».

وأضاف «شلبى» أنه لابد من التعاون مع بعض القطاعات الخاصة لأجل توفير فرص عمل لهم أو تقديم قروض ميسرة تعولهم أو مشروعات صغيرة: «محتاجين يكون فى جهد مشترك ما بين الجمعيات والدولة والمجتمع المدنى والمجلس المدنى للبحوث الاجتماعية والجنائية، ومحتاجين نهتم بالمسألة النفسية والاجتماعية ونجيب كوادر متميزة فيهم عشان نتجنب إنه يكرر الجريمة تانى، ويكون فى تعاون مؤسسى بين الداخلية وقطاع السجون والمؤسسات المهتمة بالجانب النفسى والاجتماعى، ومنظمات المجتمع المدنى ممكن تلعب دور زى المنظمة المصرية على المستوى الإقليمى المحلى».

ونوه أمين عام المنظمة العامة لحقوق الإنسان إلى ضرورة فتح حوار مع بعض المفرج عنهم ووزارة الداخلية والمركز القومى للبحوث الجنائية وقطاع السجون وحقوق الإنسان: «نظرة المجتمع لازم تتغير ونعمل توعية، وده هياخد سنوات، لازم نعمل حملة عن طريق وزارة التربية والتعليم ووزارة الثقافة والإعلام، ونتواصل مع التضامن الاجتماعى ونقدم حلول ليهم».

علماء نفس واجتماع: عودتهم للجريمة واردة بسبب الاضطهاد

الدكتور جمال فرويز، أستاذ الطب النفسى بجامعة القاهرة، أكد أن المجتمع لديه تخوف من الأشخاص الخارجين من السجون، وهذا يسبب نوعا من الإحباط والاكتئاب لديهم قد يدفعهم للعودة إلى الجريمة مرة أخرى.

ويقول «فرويز»: «لو المفرج عنه أثبت أنه اتغير ممكن ياخد فرصته فى المجتمع، ولو مخدش فرصته هيلاقى زن من اللى حواليه عشان يرجع يمارس الإجرام من تانى ووقتها هتكون حياته ضاعت وهيكون فى صعوبة إنه يرجع كويس تانى».

ويشير الدكتور حسن الخولى، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، إلى ضرورة خلق توعية مجتمعية تجاه المفرج عنهم من خلال وسائل الإعلام، ويقول: «لازم يكون فى توعية لأصحاب الأعمال عشان يوافقوا يشغلوهم، وفى جمعية اسمها رعاية خريجى السجون بتبحث كل ما يخصهم وبتساعدهم، لازم ياخدوا فرصتهم فى المجتمع، ويلاقوا فرصة عمل كريمة».

وشدد على ضرورة أن يتقبله المجتمع كما هو حتى لا يتحمل عقوبة جريمته مرتين: «لازم المفرج عنه يكون صبور وعارف إنه حسن السير والسلوك، ويحاول يثبت ده للمجتمع، ويكون عامل حسابه إنه ممكن يترفض لو قدم على أى شغلانة، وده مش بيحصل فى مصر بس دى ظاهرة عامة فى كل الدول، وأهم حاجة يكون فيه احتياطات تضمن إنه ميرجعش للجريمة تانى».