رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فَجْران كاذبان و«أستك»!


نمت على صوت «أم كلثوم» وهى تغنى «أمل حياتى»، وقبل أن أصل إلى منزلى كنت أستمع إلى «أكدب عليك» للعظيمة «وردة». ولو سألتنى عن سبب تلك «الدَّخلة» الغريبة، سأقول لك إننى كنت أتمنى أن أعيش دور المثقف العميق وأحدّثك عن فنجان القهوة الصباحى وصوت «فيروز» وزقزقة العصافير فوق «قرميد» المنزل. لكننى، للأسف، أشرب القهوة فى «كوباية» كبيرة وأحب «وردة» أكثر من «فيروز»، وكعبلنى القدر فى «نصاب» أخذ ثمن «القرميد» ولم يقم بتركيبه، ونجح بادعاء المرض فى استمالة أبى وعمى، فلم آخذ من النصاب حقًا أو باطلًا، وراح القرميد يا «ولدى»! صحيح أن العصافير تغرد وتزقزق على سور «البلكونة»، لكن طالما مفيش «قرميد»، فلا يصح للكاتب المثقف العميق أن يلتفت للتغريد أو يكتب عن الزقزقة!



بدلًا من «فيروز» أو «وردة»، قضيت هذا الصباح أتصفح كتاب «الفجر الكاذب: أوهام الرأسمالية العالمية» الذى ترجمه أحمد فؤاد بلبع، وصدرت طبعته العربية الأولى سنة 2000 عن المجلس الأعلى للثقافة. وفيه يتوقع «جون جراى» مستقبلًا حالك السواد لـ«السوق الحرة على النمط الأنجلو أمريكى» وهو النمط الذى يؤيده أكثر قادة الغرب، ويروج له الإعلام الأمريكى. ويتوقع أن تؤدى محاولة فرض تلك السوق الحرة على العالم، إلى كارثة إنسانية تشبه تلك التى تسبب فيها النظام الشيوعى.

ولكى تكون على علم أو «عشان تبقى عارف»، فـ«الفَجر»، بفتح الفاء، فَجْرَان: أَحدهما المستطيل وهو الكاذب، والآخر المستطير، وهو الصادق. أى الفجر اللى بجد. وأيضًا، «جون جراى»، اثنان، أحدهما هو الطبيب النفسى الأمريكى، صاحب كتاب «الرجال من المريخ، النساء من الزهرة» والذى يراه كثيرون مرشدة ودليلهم إلى فهم الجنس الآخر، بينما أراه سببًا فى مشاكل لا أول لها ولا آخر. وربنا يجعل كلامنا خفيف عليها!

أما «جون جراى» الآخر أو المقصود، فهو أستاذ اقتصاد بريطانى بجامعة أوكسفورد، ينتظر منذ 1998 «هى سنة صدور الكتاب» لحظة انكسار وسقوط قوة أمريكا وانتهاء حقبة الهيمنة الأمريكية. وله فى ذلك مئات المقالات والدراسات منها مقال نشرته الـ«الأوبزرفر» فى 28 سبتمبر 2008 توقع فيه أن تؤدى الأزمة المالية التى شهدتها الولايات المتحدة، وقتها، إلى السقوط بالطريقة نفسها التى سقط بها الاتحاد السوفييتى!

وكان أحد أقوى أدلته على تراجع الهيمنة الأمريكية، هو استحقار الرئيس الفنزويلى هوجو شافيز «الله يرحمه» للولايات المتحدة دون أن تتم محاسبته! كما استنتج أو تنبأ بأن نظام الأسواق الحرة الأمريكى يدمر نفسه بنفسه، وأن الدول التى احتقرت النظام الرأسمالى الأمريكى هى التى ستقوم بإعادة تشكيل مستقبل الولايات المتحدة الاقتصادى!

فى كتابه «الفجر الكاذب: أوهام الرأسمالية العالمية»، أكد «جراى» أن الأسواق الحرة تسببت فى انهيار اجتماعى للولايات المتحدة بشكل لم يعرفه أى مجتمع متقدم آخر، وأن الأسر الأمريكية أضعف منها فى أى بلد. وزعم أن النظام الاجتماعى يتم دعمه هناك بسياسة قوامها فتح أبواب السجون على مصراعيها. وزاد على ذلك فأضاف أنه لا يوجد بلد صناعى يستخدم السجن كوسيلة للضبط الاجتماعى على النطاق الموجود بالولايات المتحدة. وخرج من ذلك بأن الأسواق الحرة، وخراب الأسر والمجتمعات المحلية، واستخدام العقوبات الجنائية كملاذ أخير ضد الانهيار الاجتماعى، تتقاطر بعضها فى إثر بعض. وأن الأسواق أضعفت أيضًا، بل ودمّرت مؤسسات أخرى يتوقف عليها التماسك الاجتماعى. أما فترة الرخاء الاقتصادى طويلة الأمد، فأكد أستاذ الاقتصاد بجامعة أكسفورد أن معظم الأمريكيين لم يحققوا منها فائدة تُذكر!

ما الذى جعلك تتذكر «جون جراى» وكتابه الآن؟!

أو إيه اللى فكرك بـ«الخواجة ده» دلوقتى؟!

أنتزع السؤال من طرف لسانك، لأقول لك إن كتابًا صدر لـ«ستيفن كوك»، الخبير بمركز العلاقات الخارجية الأمريكية، عنوانه «الفجر الكاذب: الاحتجاجات والديمقراطية والعنف فى الشرق الأوسط الجديد»، يتناول فيه ما شهدته المنطقة من أحداث فى السنوات التى تلت ما يوصف بـ«الربيع العربى»، ويرى فيه أن الانتفاضات التى حدثت فى الدول العربية أدت إلى مزيد من القمع. والكتاب مرشّح بقوة لأن يكون أحد منطلقات التنظير و«التثاقف» خلال الفترة القادمة! وبهذه المناسبة غير السعيدة، أشير إلى أن الشاعر بول فاليرى، سأل منذ قرن تقريبًا، بالضبط منذ 98 سنة: «هل ستحافظ أوروبا على ما هى عليه وتظل لؤلؤة العالم والعقل المدبّر لنطاق واسع من العالم أم سيجبرها الواقع على أن تكون أكثر ارتباطًا بقارة آسيا؟». والآن، أصبح حلم البعض هو إعادة ترميم القارة وفق المسار الذى يجعلها مشروعًا موازيًا أو متفوقًا على الولايات المتحدة. بينما يقول الواقع إن القارة العجوز ستغرق فى أزمات وستدخل فى حالة جمود لسنوات أو عقود مقبلة، بينما ستتحرك آسيا والعالم بوتيرة متسارعة. الخلاصة أو الحكمة المستفادة، من كل «وجع الدماغ» الذى سبق، هو أن «الخواجات» أصحاب الأسماء الكبيرة والسمعة «التخينة»، لا يكونون على صواب، دائمًا أو غالبًا أو على الأرجح، حين يتصدون لموضوعات تخصهم أو تخصصوا فيها. فما بالك بالموضوعات والمشكلات والمعضلات المعقدة والملتبسة التى تخص غيرهم وبعيدة عن تخصصاتهم! وعليه، فقد كان قدامى الحكماء على حق حين قالوا «كل قرد يلزم شجرته»، وأرجوا ألا تكون قد تشاجرت وأنت صغير مع «عيل رخم» رآك تلعب أمام منزله فقال لك: كل واحد يلعب قدام بيته!.