رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن أي فلسطين نتحدث.. عن أىِّ حل؟


طيلة سبعة عقود، وما يُسمى «القضية الفلسطينية» تراوحُ مكانها، إن لم تكن قد تآكلت تمامًا سواءً تحت وطأة المدِّ الإسرائيلى الجارف، أو بفعل الصورة الإعلامية النمطية التى اختزلت المأساة تدريجيًا لتصبح على هامش الاهتمامات الدولية والعربية وحتى الفلسطينية ذاتها.. حتى إننا نجد أنفسنا أمام جيل ربما لا يعرف عن فلسطين القضية الأم شيئاً.

ورغم أربع حروب عاتية، تقزَّمت «القضية» وبدلًا من قرار التقسيم «1948» بين العرب واليهود، باتت حدود 4 يونيو «1967» قرارًا دوليًا ومطلبًا خجولاً، تقلص بعد اتفاق أوسلو «1993» ليصبح مجرد حكم ذاتى لكيان منزوع السلاح والسيادة بعد الاعتراف الفلسطينى بوجود إسرائيل على 78% من الأراضى المحتلة، ثمَّ كانت النتيجة فى النهاية ما نشهده اليوم بعد انقلاب حماس «2007» فى غزة، انقسامًا بين كيانين متنازعين، أحدهما معترف به دوليًا ومشلولٌ تمامًا ومزروع بالمستوطنات الإسرائيلية فى الضفة الغربية، والآخر محاصر بالحديد والنار فى إمارة غزَّة.. ليبدو أننا أمام واقع جديد على الأرض يجب التعامل معه والوصول إلى حل جذرى له.. ليس بإنهاء الانقسام الذى فشلت كل محاولات رأب صدعه، ولكن بإنتاج صيغة أخرى للتعامل معه كإحدى مفردات النزاع نفسه.

ما بات واضحاً، أن استمرار الانقسام مترتب له حتى فلسطينيًا وأنهم شركاء فى بيع القضية.. فالضفة تعيش حياتها العادية داخل النسيج الإسرائيلى، العملة هى الشيكل، والعمال الفلسطينيون هم من يعملون فى قلب إسرائيل ليوفروا مصدر رزقهم، والأمن الإسرائيلى هو من يسيطر فعليا ويقرِّر حتى دخول أو خروج المسئولين فى السلطة، ولا يوجد من يستطيع توصيف ما يمكن أن يحدث مستقبلًا للضفة التى تطفح بالمستوطنات التى لن تتخلى عنها إسرائيل أبداً، لنكون بالتالى أمام كيانين «فلسطينيين» لا سلطة لأحدهما على الآخر، عباس ومعه فتح لا سلطة لهما على غزة، وحماس لا تتحكم فى الضفة، وهذا ما جعل إسرائيل فى مركز قوة.. مع من تتفاوض.؟ ومن يضمن لها تنفيذ ما تم الاتفاق عليه مع الطرف الآخر.! ولهذا طالما أن الفلسطينيين ارتضوا كيانين منفصلين، فنجد أنه تم اللجوء للتعامل مع كل كيان على حدة، ولهذا ليس هناك ما يمنع لتطبيق فى الضفة ما يجرى على عرب 48، أى اعتبار المشكلة داخلية إسرائيلية، لأنه ليس هناك فى الصورة الذهنية فلسطين من الأساس.. وبات الحديث عنها وكأنها غزة فقط، وهذا مقصود تماماً.. وهو ما أفصح عنه مواربةً أحد مسئولى المخابرات الإسرائيلية.

ربما تكون ترتيبات الحل النهائى، لاتزال فى أروقة الغرف السريَّة، رغم أنه حتى وقت قريب، كان حلّ الدولة الواحدة تهديدًا يواجه المسئولين الإسرائيليين بما يمكن أن تقود إليه تداعيات الوضع القائم واستمراره.. لكن بعد زيارة نتنياهو الأخيرة لواشنطن، بدا أن تصور نتنياهو/ ترامب عن السلام، يعيد إنتاج طموحات إسرائيل فى دولة يهودية كاملة، مع منح سكان الأراضى المحتلة، فى أفضل الأحوال، حقوق مواطنة من الدرجة الثانية أو شكلًا من أشكال الحكم الذاتى، أو بحسب سيناريو آخر أكثر قتامة، إعادة توطينهم فى دول الجوار.

وهنا يمكن فهم تصريحات ترامب الأخيرة عن خيارات السلام، وتخليه عن حل الدولتين، على أنها نظرية تآمرية يتمُّ طرحها بين حينٍ وآخر، حول منح أجزاء من سيناء للفلسطينيين، وهذا ما حدث خلال العام الأسود من حكم جماعة الإخوان الإرهابية، وأيضًا لا يمكن تمرير تصريحات ولى العهد البحرينى لصحيفة أمريكية قبل أيام، وتصوراته لحل النزاع عبر بناء جزيرة ـ بمال خليجى طبعًا فى البحر الأبيض على امتداد قطاع غزة لتكون دولة للفلسطينيين، علمًا بأن هذه التصريحات لا يمكن أن تصدر إلا بتنسيق بين البلدين قبيل زيارة ولى ولى العهد السعودى ولقائه بالرئيس ترامب، لتحريك الموضوع كبالون اختبار وتهيئة المناخ لهذا المقترح، بحيث لا يكون مباشرة من السعودية.. وكلها بالتالى لا يمكن عزلها عما يجرى من ترتيبات دولية وعربية أيضًا قبيل القمة المرتقبة فى الأردن.. خاصة أن إسرائيل نجحت بالفعل فى ترسيخ وجودها عمليًا ومعنوياً، حتى بين الفلسطينيين أنفسهم، بتحويل طموحات القضاء على المشروع الصهيونى، إلى القبول به والتعايش معه فى إطار حل الدولتين، وأحيانًا أخرى بتوسل حل الدولة الواحدة، وأخيرا بالفزع منه وتمنِّى استمرار الوضع القائم.. أى الانقسام بشكله الراهن، الذى ينتج لنا فى النهاية دولة فلسطينية فى غزة فقط، مع ترتيبات خجولة تتعامل مع الضفة وكأنها جزء من إسرائيل.. كل السيناريوهات تحت الطاولة، والأيام المقبلة ربما تكشف المزيد!.