رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف يغرد العصفور.. وفرع الشجرة مكسور؟


أنثر حروف كلماتى هذه، قبل ساعات ثلاث، من انعقاد الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين، استعداداً لانتخابات التجديد النصفى، التى تجرى كل عامين، لاختيار النقيب، وستة من أعضاء مجلسها.. ومعنى هذا، أننى لا أكتب من صدمة خسارة فلان، ولا فرحة بفوز عِلان، وإنما هى حروف فجرتها متابعاتى، على مدى الأيام الفائتة، لبرامج الزملاء ودعاياتهم الانتخابية، وما احتوت عليه من وعود، لم ينتصر أى منها للوجود الحقيقى لمهنة الصحافة، مجرداً من نزعات الهوى، أو غلبة المصالح المباشرة.. فالذى لا شك فيه أن الجميع راح يطالب بالحرية وممارسة الديمقراطية، وبيان الحق والواجب، دون أن يدرك، هذا أو ذاك، أنه لابد من بيئة، فى الأساس، تستوعب هذه المصطلحات، حتى نجدها كائناً من لحم ودم، ولم يسأل أحد نفسه عما يتهدد وجود مهنة الصحافة أصلاً، واستمرار بقاء المؤسسات الصحفية، قومية وخاصة.. فالكل فى الهم شرق، فى التحديات ومعركة البقاء.

لقد جئنا إلى الدنيا، ولم نختر الأرض التى شهدت ميلادنا، ولم نُخير فى العقيدة التى ستحكم سلوكنا، لم نفاضل بين آباء وأمهات، بل لم يكن لنا إرادة اختيار أسمائنا.. ومع هذا، نموت فداءً لتراب الوطن والذود عن حياضه، ونعلى من شأن عقيدتنا ونصونها من الدنس أو الشطط، نبر آباءنا، ونقبل أيادى أمهاتنا، لأنهم أسباب وجودنا، بعد قدر الله، ونعتز بما حملناه من أسماء، لا نريد لها تلوثاً.. فما بالنا مع الصحافة، وقد جئناها طائعين غير مُكرهين، مختارين غير مجبورين، وقد صارت قوتها عنوان هيبتنا، وضعفها موئل سقوطنا؟!.

لم ينشغل أحد، بالبقاء الوجودى للصحافة، كمهنة وصناعة، إلا من رحم ربى، رغم أنها حجر الزاوية فى الموضوع، وواحدة من حوائط الصد فى حماية المجتمع، الذى راح يستقى أخباره من مواقع التواصل الاجتماعى، بما يعنيه ذلك من تهديد لاستقرار وسلامة المجتمع والمواطن، ومن عزوف القارئ عما تصدره بعض المؤسسات الصحفية، لأنها لم تطور نفسها، بما يستوجبه اللهاث الرهيب، فى وسائل الإعلام والاتصال.. لم ينشغل أحد بذلك، رغم أنه لا نقابة بدون مهنة نمارسها على الأرض، وتحظى بالقوة اللازمة، كواحدة من قادة الرأى فى المجتمع، وفاعل لا يُبارى فى صياغة وجدان الأمة وشحذ همتها، فى البناء والملمات.. لم يلتفت أحد إلى أن كثيراً من كيانات هذه المهنة باتت على المحك، وأن بقاءها مرهون بضرورة التصدى للتحديات الجِسام، التى تواجهها الصحافة، مهنة وصناعة، والأخيرة منها بالذات، شهدت إخفاقات متتالية خلال الأعوام الماضية، لأن ما جرى على المجتمع برمته، من تغيرات اقتصادية، يدفع الجميع فاتورتها انتظاراً لموسم الحصاد، انسحبت آثاره أيضاً على هذه الصناعة الصحفية، وباتت المؤسسات، القومية منها والخاصة، تعانى الأمرين من أجل الاستمرار والبقاء فى الميدان طويلاً، حتى يأتى الغوث، من آثار الإصلاح الاقتصادى، أو بإدارات تستطيع حمل أعباء المسئولية، بقدرتها على الخيال الخصب، وحكمتها واقتدارها على طرح الحلول وتنفيذها على أرض الواقع.

قبل أكثر من عامين، طالب الأمين العام للمجلس الأعلى للصحافة، أستاذنا صلاح عيسى، عبر رسالة مفتوحة لرئيس الجمهورية، بضرورة الوقوف إلى جانب المؤسسات الصحفية، بدعمها بمليارى جنيه، كفيلة ـ فى نظره ـ بحل مشاكل هذه المؤسسات والخروج بها من وهدتها.. ساعتها كتبت، رداً على أستاذنا، بضرورة ربط هذا الدعم، ببرامج إصلاح واضحة المعالم، وقابلة للتنفيذ، يتقدم بها القائمون على هذه المؤسسات للحكومة، عبر المجلس الأعلى، مشمولة بالتكاليف الواجب على الحكومة دفعها، حتى تستطيع تقييمها لاحقاً، والمحاسبة على ما تم إنجازه حقيقة، وبيان ما أخفق البعض فيه.. ووقفت الدولة مع الصحافة، وأمدت مؤسساتها، على مدى عامين، بمليارى جنيه فعلاً، مثلت سبقاً لم يشهده تاريخ هذه المهنة، فأحسن البعض استغلال ما خص مؤسسته، وذهب البعض لشراء سمك دون «السنارة»، فضاع الدعم، وواصلت مؤسسته ضعفها وانكسارها المالى، لأن هذا البعض كان كرجل أتاه الله مالاً، وبدلاً من أن يستثمره، قعد عن العمل، فلا مال بقى، ولا عمل استمر، وأصبحت مثل هذه المؤسسات فى مهب الريح، تتلاطمها أمواج البقاء أو الزوال.. وللأسف، لم يحاسب أحد أخاه، لا الحكومة ولا المجلس الأعلى!.

ورغم ضخامة المحنة، انشغل الصحفيون فى معركة الانتخابات، انقسموا فيها على أنفسهم، وراح كل شطر يكيل للآخر ما شاء له الكيل، وبقدرة قادر، صار عنوان المنافسة، أو المعركة، الانحياز للدولة أو الوقوف ضدها، مع أنه لا عاقل يقول بمعاداة الدولة، لأنها عنوان البقاء والارتقاء، للصحفى، ولكل إنسان يعيش فوق أرض هذه المحروسة.. صحيح، قد نختلف أو نتفق مع الحكومة، لأنهم بشر، يُصيبون ويُخطئون، لكننا لا نُجير هذا الموقف للدولة، فالاختلاف مع الحكومة، هو انتصار حقيقى لرهاننا على الدولة، لأن الكل يُريد الإصلاح ما استطاع، من هم فى الحكومة، ومن ينتقدون وزراءها.. الكل ملبوس بالحالة الوطنية، مهموم بتحديات دولتهم، كلٌ يسعى إلى خيرها على طريقته.. الهدف واحد، وإن اختلفت طرق الوصول إليه.

ومع هذا.. لم أجد عاقلاً يطلب الجلوس إلى الحكومة، لمناقشة سبل الخروج من أزمة الدين الحكومى المستحق للضرائب والتأمينات الاجتماعية، وضرورة إصدار تشريعات تفُض مشكلتها، حتى تلتفت المهنة إلى مستقبلها، أو أن يتفاهم حول بعض الديون التجارية مع أصحابها، أو علاقة الحكومة بجمارك استيراد خامات الطباعة وقطع غيار الماكينات أو جلب الجديد منها، وغيرها كثير، مع ما هو ضرورى من زيادة البدل، أو رفع الحد الأدنى للأجور، أو الإسكان الاجتماعى، تأميناً لحياة كريمة للصحفى.. وقبل أن يقول قائل بأن هذه مهمة المجلس الأعلى للصحافة، حالياً، وهيئات الإعلام الثلاث، مستقبلاً، ولا دخل لنقابة الصحفيين بها، أقول، إن النقابة، وهى تدافع عن حقوق الصحفى ومكتسباته، لابد أن تدافع عن أصل بقائه، وعنوان وجوده كصحفى، وهو استمرار بقاء مؤسساته، لأنه لا حياة بلا أرض أو سماء، ولا حرية لعصفور، دون وجود أشجار، يغرد فوق فروعها!.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.