رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرهان على إصلاح مؤسسات الدولة


إن قدرة الدولة على التخطيط الاستراتيجى طويل المدى تمر أولًا عبر التعامل مع الإمكانات المتاحة، وتعظيم الاستفادة منها، ولا يمكن ذلك إلا بتغيير جذرى فى حالة المؤسسات المصرية.. فبقاء الحال على ما هو عليه يعنى نتيجة واحدة هى صناعة اليأس والإحباط فى المجتمع، مع الانتباه إلى أن دور الأجهزة الرقابية القومية، رغم أهميته، يبقى محدود الأثر، ما لم تتغير أدوات الرقابة على المستوى الوزارى والمحلى، هذا هو الرهان الإصلاحى الشامل، فهل نحن حقًا فاعلون؟!.



كشفت أحداث ثورة ‬30 ‬يونيو عن مجموعة من جوانب الضعف العربية.. كانت واضحة وجلية فى بعض الجوانب، وكانت منزوية فى جوانب أخرى منها: ‬‬‬‬‬

أولًا: إعادة اكتشاف الدولة، ‬حيث كشفت الأحداث عن أن مفهوم الدولة ليس راسخًا لدى قطاعات من المصريين.. فكان الاعتقاد أنه أمام قيمة الدولة فى بلد بسيط موحد وذى كيان حضارى وتاريخى مثل مصر، تتراجع كل المصالح والروابط الأدنى..‬ ولم يكن معروفًا أنه فى ‬غفلة من الزمن، سطت جماعات على دور ووظيفة الدولة، ووجهت أذهان أتباعها إلى التعلق بدولة «‬خلافة افتراضية».. أصبحت عندهم ‬غاية وهدفًا أهم من الدولة الوطنية، وأصبح بالإمكان شن حرب من جانب أنصار الدولة الافتراضية ضد أركان الدولة الوطنية القائمة، دون أن يدركوا أنهم يهدمون الاثنتين معًا. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ثانيًا: كان الاعتقاد أنه من السهل على المواطن العربى أن يدرك الفارق بين النظام السياسى الذى يمكن أن يجرى إصلاحه أو هدمه، والدولة التى تمثل أحد أعظم ابتكارات الوجود البشرى.. وخلط البعض بين الدولة‬ والنظام السياسى، ‬والجيش.. ‬واتجه آخرون لهدم النظام، ‬والدولة، ‬والجيش معًا.. ولم يكن ذلك أمراً طبيعيًا فى دولة، ‬كان الاعتقاد أنها تختلف عن غيرها من الدول العربية، فتبين أنها ليست بمنأى عن كل ذلك أمام جماعات تعيش بفكرها وأحلامها خارج الوطن والزمن. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ثالثًا: إعادة اكتشاف العلاقات العربية.. ‬فقد أكدت الأزمة أن هذه العلاقات انحدرت فى مستوى جديد من التدخل الفج فى الشئون الداخلية. ‬ صحيح أن هناك ميراثا عربيا فى ذلك إلا أنه فى الأغلب كان يجرى فى الدول العربية الصغرى، من جانب دولة جوار عربية كبيرة..‬ لكن الوضع الراهن كشف عن تدخل قوى صغيرة فى الشئون الداخلية للدولة العربية الكبرى («‬قطر ‬الجزيرة» وتونس نموذجًا). وإلى حد كبير، ‬لا يعكس ذلك اختلال قواعد العمل العربى بقدر ما يعكس رغبة فى تصدير الأزمات الداخلية. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

رابعًا:‬ جرت عملية «إعادة الاكتشاف» ‬الأخرى فى العلاقات الخليجية-‬المصرية، بعد سقوط حكم الإخوان،‬ حيث تحولت العلاقات من الحالة التقليدية الرتيبة والنمطية إلى حالة الدفء والحركية.‬ وبعد أن فقدت أغلب دول الخليج الحميمية مع مصر فى عهد الإخوان، أعاد كل طرف قراءة الآخر، فى ظل عملية كبرى من «‬إعادة الاكتشاف الاستراتيجى».. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬وأخيرًا، تبقى ضرورة التفكير فى السيناريوهات البديلة، وهى التى يجسدها السؤال: ‬ماذا لو كان قد استمر حكم الإخوان، وتجليات ذلك مصريًا وعربيًا، وماذا لو كان بالإمكان أن يعود الإخوان إلى الحكم، وتجليات ذلك مصريًا وعربيًا. ويعود جزء من فقدان الصواب لدى البعض إلى عدم التفكير بهدوء فى هذين السيناريوهين. ‬‬‬

فالحقيقة المؤسفة أن هذه الحالة العاطفية والإعلامية تتكرر فى كل مرة يقع فيها اعتداء طائفى أو إرهاب يستهدف المسيحيين أو يثير فتنة بين الناس: حماس شديد، ومقالات نارية، وبيانات من القوى السياسية تشجب وتدين، وتبرعات سخية، وتدخل من الدولة لإصلاح بعض ما انهدم، ثم ما يلبث الموضوع أن يتراجع من اهتمام الإعلام والرأى العام، وتعود الأمور إلى سيرتها الأولى، ويظل المهجرون بعيدًا عن منازلهم، والمجرمون بلا عقاب، والتوتر الطائفى مستمرًا. ولذلك فإن التفرقة ضرورية بين ما هو عاجل وما هو آجل فى التعامل مع الملف الطائفى ومع الإرهاب الذى يسعى لاستغلاله من أجل شق صف المجتمع وتعميق الفجوة بين أبنائه.

هذه الإجراءات الآجلة التى يلزم علينا جميعًا أن نتمسك بها تبدأ بأن تتجاوز الدولة الحديث المتكرر عن تجديد الخطاب الدينى وتتخذ إجراءات حقيقية نحو التصدى لخطاب التحريض والتمييز السائد فى المناهج الدراسية وفى وسائل الإعلام، بل على لسان بعض المسئولين. تأجيل النظر فى هذا الموضوع بحجة الملاءمة السياسية ليس مقبولًا لأن أولوية الحفاظ على الوحدة الوطنية تتجاوز كل الحسابات والمواءمات. كذلك فقد حان الوقت للعمل وبجدية على إصدار قانون شامل لمنع التمييز بكل أشكاله وكفالة المساواة بين المواطنين.