رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل يصلح الخبز نموذجًا للارتباك القاتل؟


هذا المقال قد يكون أكثر صلاحية لصانع القرار منه للقراء أو المواطنين، فالمواطن والقارئ اللذان صدَّعنا رأسيهما بسطورنا، لديهما من التفاصيل المماثلة ربما أكثر مما نحاول التقاطه، من قضايا أو مشاهد دالة هنا أو هناك، كى نصوغ عبرها ما اخترناه عنوانًا لهذه الزاوية، «اقتراب آمن». كى نصل إلى حواف ما يدور فى فضاء المخاطر، الساكنة طيات معظم ملفاتنا، والقارئ أو المواطن أيهما أقرب فى التوصيف يعيش ويجلس ويتقلب فى مشاهد حياته المتنوعة داخل تلك الملفات، لذلك فى بعض العناوين الشائكة مثل «رغيف العيش» يظل هو أعلم بها منا. والتنظير عليه أو محاولة التذاكى وإطلاق التحليلات يصير نوعًا من العبث، ربما نتلقى مقابله ما لا يرضينا طالما رضينا أن نخوض فى ملعب يلعب دائمًا لصالح جمهوره.



فى محاولة إذن للعب دور الوسيط ما بين الجمهور وصانع القرار فى أزمة الخبز، التى بدت وكأنها داهمت الجميع منذ أيام، ستكون البداية الحتمية من فعل المداهمة الذى كاد أن يحدث كارثة. الجمهور الذى صفق منذ سنوات قليلة لمنظومة توزيع الخبز المدعم، أدرك مع الوقت أن الدولة لم تعتمد أسلوب رقابة ذكيًا يقطع الطريق على راغبى النفاذ من ثغراته المصنوعة عمدًا، فهو لم ير يدًا غليظة حاسمة تضرب الفساد المتوقع فى ملف يدر الملايين يوميًا. وبدت أجهزة الرقابة بعيدة عن تلك التفاصيل غير قادرة على فك شفراتها، رغم وضوحها بجلاء أمام المواطن المتعامل على شبابيكها يوميًا، لذلك جاء قرار وزارة التموين الذى استهدف تقليص حجم المتسرب من حصص الدقيق المدعوم، عبر تقييد محدود ليد أصحاب المخابز، كما لو كان صادرًا فى الوقت الضائع. فصانع القرار هنا لم يسأل الجمهور الطبيعى سؤالًا بسيطًا كان من الممكن أن يجنبه ما انقلب إليه المشهد، فقط مجرد الحرص على معرفة ماذا يحدث هناك، كان سيضع يديه على معلومات كافية لصنع درجة رقابة معقولة تساهم فى ضبط المنظومة وأموال الفساد المهدورة على المواطن والدولة.

هل صدور بيان صحفى من وزارة التموين بالتليفزيون الرسمى للدولة، كان سيكلف إدارة الإعلام بالوزارة جهدًا، بدلًا من القفز السهل على القرار من ماكينة الشائعات لتحوله إلى أزمة. فى مثل هذه الأمور والملفات، لن يقتنع المواطن ولا صاحب المخبز ولا أى طرف من أطراف المنظومة إلا بما هو صادر عن إعلام الدولة الرسمى، هكذا يضع الجمهور وزن الملف بجوار وزن رغيف الخبز على درجة يقينه بجدية ومباشرة «شارة ماسبيرو».

وهنا جاءت الفجوة وساد الارتباك، فصانع القرار لا يلقى بالًا بالجمهور ولا يضع وزنًا لإعلام الدولة الرسمى ويستبدله به القنوات الخاصة التى تتلاعب به فى كل مرة، فلم يكن أسهل من استثمار مشهد قابل للإثارة كى يتم تقليبه على كافة الأوجه والاستمتاع بملء ساعات الهواء، وقبلها صفحات الأخبار الإلكترونية التى عاثت فسادًا فى الفراغ السرمدى الذى تشكل من صانع القرار نفسه.

فى ساعات ولا يحتاج الأمر لأكثر من ذلك، تحول هذا الأخير تلقائيًا لمتهم يدافع عن نفسه وعما كان يقصده أو يستهدفه، وتحول الصوت لنبرة الصراخ والتنديد منه بمن يحاول الإثارة وبث الأكاذيب، يقابله صراخ، آخر لمن يتحدث عن ثورات الشارع، وتصم الآذان عن الحقيقة وينحرف المشهد ليصير المستهدف كيفية الخروج من المأزق وترتيب آلية توزيع الاتهامات.

كم من القضايا سقطت فى هذا الفخ الذى هو من صناعة التنفيذيين أنفسهم، بأى مقياس يمكن تقدير ما سقط منهم فى طريق قيامهم بمهمة إصلاح ما فسد، وهل تبقى لهم من وقتهم وجهدهم ما يمكن المراهنة على قدرته على تشكيل مستقبل جديد، الإجابات صارت رفاهية بقدر تعقيد التفاصيل، والتخطيط الشامل والصارم غائب بنفس درجة الفداحة التى يصنعها الارتباك المتكرر.

فى هذا نتحدث عن الخطة الحكومية، ومن المهم لصانع القرار، أيًا كان موقعة، فى التموين أو غيرها، فى موقع أعلى أو أدنى أن يدرك ويقيس بميزان حساس حجم الثقة المفقودة فى الطريق العام، تجاه ما يجرى مما سبق وأشباهه العديدة، وهو ما يسهل بالضرورة استثماره وإمكانية القفز عليه. هذه المرة اشتملت الخلطة على دقيق وفساد ورغيف ومواطنين، ووضع العجين على نيران مشتعلة وجاهزة على الدوام، لكنها ورغم حطب الارتباك القاتل .. بستر الله «وحده» غير قادرة على الإنضاج بعد.