رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحوال الشعر


كثيرًا ما حاولت أن أتخيل الوسادة التى ينام عليها الشعر، اقترحتها تارة نبتة وحيدة ظهرت على كتف جبل ضخم، ورأيتها تارةً أخرى بعض هواء تنفسه حوتٌ خرج لتوه من الماء.. الشعر ابن الحقيقة الذى مرق عن الواقع وصار خيالاً، منطقه ليس معقولاً، ومنطوقه ليس فى كل الأحوال مقبولًا.. «وعلَّم آدم الأسماء كلها».. ولذلك فإن الشعر فيض من أسرار منحت لآدم، فصار متفردًا عن غيره، ولربما كان فى داخل كل اسم جسدٌ شاعرٌ يجلس فى أبهةٍ، ومن حوله الحروف تحتفى به، وتتحلق من حوله، فيختار فى كل ليلة حرفاً، ينفخ فيه فيكتنز بأسرار لا تدركها سوى الأفئدة العارفة.



الفنُ أحوال، فحال الريشة ليس كحال النغم، وحال استحضار الأرواح «التمثيل»، ليس كحال استحضار الأشباح «النحت»، لكأننى بهم جميعاً، شعيرات فى ذقن متصوف، تمرد فتجرد، فأبحر فعبَّر.. إلا أن الشعر ليس المكتوب كما يعتقد البعض، بل هو المرسوم والمنحوت والمُنغَّم والمُغنَّى والمُشخَّص. الشعر ليس نوعًا من أنواع الإبداع، بل هو كل ما يجول فى خاطر المبدع، وما ينتجه فى أى قالب كان.. أتصور الشعر كذلك، وأستحضره لأننى أرى كل فن ينتشى به المرء شعراً، أما الفنون السطحية العابرة، فإذا تأملتها رأيتها خالية من ماء الشعر ومذاقه.

أما ما نعيشه الآن فهو ضوضاء مليئة بالأوبئة، وكأنى بالشعر يتخذ ركناً، وهو يجلس القرفصاء، يتجرع ألم الصقيع وحيداً.. نشهد حاليًا استمراءً لكتابة الرواية، والرواية لا تمتلك دائمًا القدرة على التخلص من جاذبية الأرض، والتحليق فى عكس اتجاهها، بل إن شطرًا شعريا، قد يختصر رواية بأكملها.. فمن أوجز فى تلخيص الحياة مثل «وإذا الدنيا كما نعرفها»، وتعمق فى فلسفة الشك فقال: (ولكنى شقيت بحسن ظنى)، وتمادى فى السخرية من الحسد «إن يحسدونى على موتى فوا أسفى.. حتى على الموت لا أخلو من الحسد»، وتضرع للمحبوب «فلا الحمد فى ذا ولا ذاك لى ولكن لك الحمد فى ذا وذاكَ»، فتذلل للحبيب «مالى سوى روحى وباذل نفسه فى حب من يهواه ليس بمسرف»، ثم تمادى فى العشق «قد ضيعها سلمت يده».

الانحياز للشعر فى هذا المقام ليس انحيازًا أعمى، ولكنه فتح لقوس أغلقته رياح الجفاء، والمشاعر العجاف، فالشعر هو الماء الذى يسيل من العين دون أن تعرف مصدر قدومه، وهو حشرجة الصوت عند لقاء الأحبة، التى لا نمتلك لها سوى تفسير علمى لها، هو تعرق اليدين فى لحظة خاصة، وانتفاضة الجفن غير المبررة فى أوقات تحتبئ من الزمن.

الشعر ليس رجلًا ناعمًا رومانسيًا فقط، بل هو حصان مدرب على الكر والفر، وضفيرة شعر لامرأة قررت قصَّها لتستعيد المسلوب، هو صوت أجشٌ، وغزالة أحنت رأسها لتمر أسفل قبو، الشعر ليس صورةً واستعارة، بل كل هذه الأشياء ما هى إلا قرابين تقدم إليه، لعله يرضى.. وإذا عدنا إلى الواقع، وجدنا الشعر فى التعليم، قصائد تم إقرارها منذ ما يزيد على ربع قرن، توقف عندها الزمن، فصار الطلاب يتعاملون معها كقطعة فى متحف، كتب بجوارها «ممنوع الاقتراب والتصوير»، والعلة ليست فى القصائد المقررة، بل فى تفسيرها وشروحها التقليدية البليدة الحس.

أما الشعر فى أروقة الدولة، فهو مجرد ألقاب تسبق بعض الأسماء التى وهنت، ورغم قيمتها ورمزيتها، إلا أنها جعلت المسئولين يظنون أن لقب شاعر، قد ألغى منذ أمد، واحتفظت به هذه الأسماء دون غيرها.. لكن الشعر لا يزال حرًا طليقًا فى شوارعنا رغم كل الابتذال. ما زالت تحمله امرأة تبيع الفُل فى إشارات المرور، ويرفرف فوق صوت بائع متجول ينشده بتلقائية، فمن يمكنه أن يمسك به وهو يقفز فوق هواء خرج لتوه من قلب بنت رقيقة. الشعر شهيد على جبهة نضال، ووليد فى سرير أبيض.. قد يكون هنا الآن، وبعد قليل سيصبح هناك، لا محالة.

ما نعيشه الآن فهو ضوضاء مليئة بالأوبئة وكأنى بالشعر يتخذ ركناً وهو يجلس القرفصاء، يتجرع ألم الصقيع وحيداً