رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حقيقة تدخل الرئاسة لمنع حوار "هيكل" في دريم

محمد حسنين هيكل
محمد حسنين هيكل

احتفالا بالذكرى السنوية الأولى لرحيل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، تنشر «الدستور» الفصل التاسع من كتاب "أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز"، للكاتب الصحفي عبد الله السناوي أحد أصدقاء الراحل المقربين.

ويتناول هذا الجزء حقيقة تدخل طرف في البيت الرئاسي لمنع حوار "هيكل" في قناة دريم الفضائية عام 2003.

لمرة واحدة كتب عن تجربة موجعة مع إحدى الفضائيات المصرية فى الـ«استئذان فى الانصراف».
ألمح ولم يفصح، اقترب من «مناطق الوجع» و«الضرب فى الوجع»، لكنه لم يروِ القصة.
البداية: منتصف أغسطس (٢٠٠٣) بقرية «الرواد» ـ على شاطئ الساحل الشمالى.
وصل وفد من قناة «دريم» يطلب أن يظهر على شاشتها متحدثا ولو لدقائق، ولو بمشاهد عائلية مصورة، تبث ضمن احتفالية تنتويها المحطة بمناسبة بلوغه الثمانين.
قال: «حياتى الخاصة لا تعنى أحدا فى شىء ـ أو أنها قد تبدو تطفلا بغير ضرورة عامة على المشاهدين فى بيوتهم».
عاود وفد المحطة، وبعضهم أصدقاء مقربون، الإلحاح والضغط، وفى النهاية لم يكن أمامه إنسانيا غير أن يوافق.
كانت تجربة أحاديثه عبر «دريم» «من قلب الأزمة إلى قلب الأمة» مشجعة.
خامرته فكرة أن الحديث من جديد، ولو لمرة واحدة، قد يساعد أجيالا جديدة فى تطلعها لمخرج من أزمة أمة ووطن.
قبل ساعات من بث حديث مسجل على شاشة «دريم» فى التاسعة من مساء الثلاثاء (١٤) أكتوبر (٢٠٠٣) كما نوهت المحطة على مدى أسبوع كامل عن اعتذارها عن عدم البث.
التنويه المكثف ساده شيء من اعتزازها بـأنها حصلت على سبق إعلامى بعد استئذانه فى الانصراف.
والاعتذار بدا مراوغا، فقد منع الحديث كله دون سبب مقنع أو تبرير مفهوم.
بدت تراجيديا التسجيل والمنع داعية للتساؤل: لماذا؟
التسجيل استغرق (١٤٠) دقيقة، وهو وقت طويل ومنهك لرجل كان وضعه الصحى يتطلب عدم الإفراط فى الكلام إلا لضرورة ملحة، أو لوقت قصير، لكنه تحدث وأسهب فى الحديث، وفى النهاية صادروه.
كان حديثه «الممنوع» ختام سلسلة من الحلقات حملت عنوانا من كلمة واحدة: «الأستاذ» أعدها الكاتبان الروائيان «جمال الغيطانى» و«يوسف القعيد»، وكلاهما قريب منه بالحوار المتصل والود الإنسانى.
وكانت «دريم» قد ألحت أن يظهر فى آخر احتفاليتها ببلوغه الثمانين ليلقى كلمة بالطريقة التى يريد والوقت الذى يطلب.
باقتضاب لم يتجاوز ربع الساعة سجل احترامه «لكل الذين شاركوا فى الاحتفال بعيد ميلادى الثمانين».
«انحنى أمام الناس مستأذنا فى الانصراف.. أن انصرف احتراما لنفسى ـ فما يحدث الآن فى مصر لا يليق، وما يحدث الآن فى المنطقة تجاوز كل منطق. أزمة المصداقية باتت متجاوزة كل شىء والصورة العامة مقلقة».
طوال حديث الـ (١٤٠ دقيقة) أكد أكثر من مرة: «أنا بره» ـ خارج المسرحين السياسى والصحفى.
من الشكر بدأ، وبما يشبه الوصية انتهى.
بطبائع الأمور تطرق إلى الأوضاع العربية المستجدة فى سوريا والعراق وفلسطين.
ماذا قال بالضبط؟
لم يُرد أن يتكلم و«النسخة الماستر» فرضت عليها إجراءات وقيود مشددة لضمان عدم تسريبها.
أخبرنى المهندس «أسامة الشيخ»، المشرف على «دريم» فى ذلك الوقت ورئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون تاليا، أنه ذهب بنفس اليوم إلى «برقاش» حاملا نسخة من الحلقة الممنوعة كى يتصرف بالطريقة التى يراها.
لكنه لم يكن مستعدا لاستعادة حرف واحد مما قال فـ«للحديث روحه».
اعتبر الصفحة كلها أغلقت وانتهى أمرها.
سجل مخاوفه على المستقبل ولم يخطر بباله، وهو يتدفق بالحديث، أن الخوف من مخاوفه سوف يصادر رسالته.
بدت القصة كلها ملبدة بغيوم السياسة والعوالم الخفية.
قبل خمسة أيام، فى ظهر أحد، دخل الساعة الحادية عشرة إلى قاعة أفراح فى فندق «هيلتون دريم» بالقرب من مدينة الإنتاج الإعلامى.
القاعة الفسيحة تحوّلت إلى استوديو حديث حتى يكون التسجيل بعيدا عن أية آذان تسمع وعيون ترى.
غير أن كل الآذان كانت منصتة وكل العيون كانت مفتوحة، على الهواء مباشرة.
كانت تلك مسألة مستغربة، فقد دأبت المحطة على بث برامجها، بما فيها أحاديث «هيكل» من استوديوهاتها فى مدينة الإنتاج الإعلامى القريبة.
لماذا استوديو خاص لتسجيل خاص لمرة واحدة فقط؟
التحوط الزائد لفت الأنظار إلى أن هناك ما قد يقوله مزعجا بعد محاضرته قبل عام واحد فى الجامعة الأمريكية، التى تطرق فيها إلى مستقبل نظام الحكم فى مصر واحتمالات توريثه من الأب إلى نجله الأصغر وبثتها «دريم» على الهواء مباشرة.
توسط الاستوديو الجديد مكتبا مريحا جلس عليه، وقد كانت هناك فكرة أن يسجل حديثه جالسا على «فوتيل» كأنه فى صالون، لكنه اعتذر فهو متعود على الكتابة والحديث من خلف مكتب عمل.
دارت الكاميرات وبدأت دراما تسجيل «وصية الأستاذ».
استلفت نظره، وهو يتحدث أمام الكاميرات، أن أحد العاملين المقربين من رجل الأعمال «أحمد بهجت» صاحب المحطة، دخل الاستوديو ومال عليه برسالة عاجلة.
غادر «بهجت» الاستوديو لربع الساعة، وعاد ليتابع حديث «الأستاذ»، لكن القرار كان قد اتخذ ـ ممنوع بث هذا الشريط كاملا.
لا أحد سوى «بهجت» يعرف مشاعره فى تلك الدقائق الثقيلة، التى جلس خلالها يستمع للأستاذ، وهو يدرك وحده أن الحديث لن يبث أبدا كما هو.
عندما تستضيف قناة فضائية رجلا كلمته مسموعة ويستطيع أن يتحمل مسئوليتها، فلا يصح أن تحجب حرفا واحدا مما يقول.
تلك من قواعد أى عمل إعلامى على شىء من الاحترام والمصداقية.
غير أن القصة لم تكن مسألة قواعد تحترم بقدر ما كانت مسألة سلطة يزعجها كلامه.
ما إن انتهى من حديثه المسهب بما يشبه الوصية اقترب منه «بهجت» قائلا: «ممكن نتكلم شوية».
لمدة نصف ساعة اختلى الرجلان على جانب فى قاعة الطعام الرئيسية بالفندق.
«بهجت» صرح بأنه ـ وحده ـ من اتخذ قرار عدم بث الحديث المسجل، وأن «الأستاذ» وافقه على قراره.
و«هيكل» امتنع عن أى تعليق وكانت العبارة الوحيدة التى نشرت على لسانه: «لا أريد أن أحرج أحدا».
غير أنه أخبرنى بالقصة الكاملة، بأدق تفاصيلها وأجوائها، كأنى كنت موجودا فى المكان، وقد نشرتها دون أن أنسبها إليه.
لم يكن يريد أن يسبب أي متاعب لصاحب المحطة، ولا يريد أن يضربه أحد «فى وجع» إذا ما بث شريط يتحمل وحده مسئوليته.
كان «بهجت» هو مصدر القرار، لكنه لم يكن صاحبه، وإلا لما ألح على «هيكل» بالحديث، وإلا لما دفع تكاليف باهظة لاستوديو خاص لرجل واحد لمرة واحدة، وإلا لما استأذن الأستاذ فى المنع وطلب مشورته فى الخروج من الورطة؟!
وزير الإعلام «صفوت الشريف» نفى بصورة قاطعة أن تكون هناك أي تدخلات من الدولة لمنع بث هذا الحديث.
لم يكن أحد، لا فى وزارة الإعلام ولا فى غيرها من الوزارات والهيئات، بوسعه أن يتحدى صاحب القرار، تلك الشخصية النافذة فى البيت الرئاسى، التى كانت على الطرف الآخر من هاتف أرضى عندما هرع «بهجت» للخروج من الاستوديو.
كان سيف القروض مشرعا.
هناك فارق جوهرى بين الحق العام فى حساب أي تجاوزات مالية لأى رجل أعمال، وبين استخدام القروض لأسباب سياسية تطويعا للفضائيات الخاصة.
فى حوار نصف الساعة عرض «بهجت» أزمته ومخاوفه.
قال «هيكل»: «افعل ما تراه مناسبا لك».
طرحت عليه ثلاثة بدائل:
الأول: بث ربع الساعة الأولى من الحديث ـ فقط ـ والمعنى أن يقتصر البث على كلمات الشكر والتقدير للذين أسهموا من الشخصيات العامة والإعلامية فى احتفالية عيد ميلاده الثمانين.
دون تردد اعتذر عن عدم قبول هذا البديل، فهو غير معقول، وربما يتناقض مع صورته العامة التى بناها بدأب على مدى عمره المهنى الطويل فى قلب عواصف الصحافة والسياسة وتقلبات الحكم ببلادنا.
الثانى: اعتذار لأسباب صحية، ولم يكن هذا الاعتذار مقبولا، فهو قد سجل الحديث بالفعل، محترما الوعد الذى قطعته المحطة للمشاهدين، وليس بوسعه إنسانيا وأخلاقيا أن يوافق على ترويج اعتذار غير صحيح، وربما لم يكن فى وسعه أن يساعد الذين أصدروا الأوامر بمنع بث الشريط من الهرب بجريمة المنع وجسمها «الشريط المصادر» دون عقاب من تاريخ، أو علم من رأى عام.
الثالث: حذف من (٣٥) إلى (٤٥) دقيقة من الشريط، الفكرة ـ فى البداية ـ بدت مخرجا معقولا من «ورطة دريم». غير أن «هيكل» قال إن الحذف سوف يخل بسياق وروح الحديث، وأنهى «حديث البدائل» بعبارة واحدة: إما أن يبث كله أو يمنع كله.
.. ولم يبث أبدا.