رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا حرض «جمال حمدان» هيكل على قيادة الثورة ضد «كامب ديفيد»؟

الكاتب الكبير محمد
الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل

احتفالا بالذكرى السنوية الأولى لرحيل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، تنشر «الدستور» الفصل السادس من كتاب "أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز"، للكاتب الصحفي عبد الله السناوي أحد أصدقاء الراحل المقربين.
ويتناول هذا الجزء علاقة "هيكل" بالمفكر جمال حمدان، وتفاصيل لقاءاتهم التي شكلت جزءا كبيرا من قصته مع الخرائط، جعلت تفاصيل ما دار بينهما من حوارات جزء من ذاكرة الكاتب الكبير.
فى قصته مع الخرائط احتفظت ذاكرته بحواراته مع المفكر المصرى الدكتور «جمال حمدان»، وهى مثيرة فى وقائعها ومجهولة فى أسرارها.
كلاهما كان شاغله الرئيسى «الجغرافيا والتاريخ».
أحدهما، قضيته الجغرافيا وعبقرية المكان فيها يقرأ ثوابتها من نافذة التاريخ وتحولاته.
والآخر، قضيته التاريخ ووثائقه فى رواية الصراع على مصر والمنطقة يطل على وقائعه من فوق تضاريس الجغرافيا وثوابتها.
«قرأت له قبل أن أعرفه، درس فى جامعة ريدنج البريطانية لكنه انتمى إلى المدرسة الألمانية الأكثر جدية فى دراسة الجغرافيا، وهى مدرسة تنتمى إلى إمبراطورية متشوقة لمستعمرات لم تحصل عليها باستثناءات سبقت الحرب العالمية الأولى.. الاستكشاف عندها سبق معرفى دون أن يكون مرتبطا بمصالح محققة».
«استمعت إلى قصص تروى عن عزلته فى محراب فكر، لا يتصل بالعالم حوله، يخرج من منزله قليلا ولا يفتح بابه لأحد إلا بإجراءات واتفاقات مسبقة، وتقصر الزيارات على من يطمئن إليه وعددهم يحصى على أصابع يد».
طرأت فكرة اللقاء الأول مع «جمال حمدان» فى حوار بمكتبه مع الكاتب الصحفى «مصطفى نبيل»، وهو من أبرز المثقفين المصريين والعرب فى ربع القرن الأخير، تولى لسنوات طويلة رئاسة تحرير مجلة «الهلال».
فى ذلك الصباح تطرق الحوار بينهما إلى صاحب عبقرية مصر، شخصيته وعزلته، إسهاماته وكتاباته، وهل يمكن أن يقنعه أحد بالخروج من العزلة التى طالت إلى رحابة الحياة.
أسهب «مصطفى» فى الحديث عن «راهب الجغرافيا»، وكل حرف يقوله مصدق، فلا أحد غيره تفتح له الصومعة المغلقة على صاحبها باستثناء أسرته تأتى إليه لتوفر احتياجاته.
«قال مصطفى: جمال يريد أن يراك.. ولم أكن فى حاجة إلى تفكير فأنا كنت أتطلع بدورى إلى رؤيته».
فى الموعد المحدد وصلا معا إلى شقة «جمال حمدان» فى حى الدقى.
مرة بعد أخرى طرق «مصطفى» باب الشقة على الطريقة المتفق عليها حتى يعرف من بالخارج، لكن لا أحد يستجيب.
بدأ بدوره يطرق الباب على نفس الطريقة، ولا أحد يفتح بابا، أو يصدر صوتا أن خلفه حياة.
اقترح «مصطفى» أن يعودا إليه فى يوم آخر بعد التأكيد على صاحب البيت حتى يفتح بابه، لكن «هيكل» أبَى، فقد كان مهيأ تماما للقاء تطلع إليه مع رجل بدا أمامه عبقريا وغامضا.
«عبقريته فى كتاباته وغموضه فى حياته».
الصحفى فيه تحرك على نحو لم يكن ممكنا معه أى انتظار لموعد جديد.
خرج إلى الشارع وبصحبته «مصطفى».
التقط حجرا صغيرا وقذفه على شرفة الشقة، التى تقع بالطابق الأرضى، لعل ضجيجا يوقظه من نوم، أو يذكره بأن هناك موعدا ــ على ما روى لى بعد سنوات طويلة رفيقه فى الزيارة المثيرة لمفكر الجغرافيا والخرائط.
سألت الأستاذ: «هل قذفت حجرا على شرفة شقة جمال حمدان؟!».
ضحك قائلا: «دع القصة يرويها لك صديقك مصطفى نبيل».
كيف كان اللقاء الأول؟
«من خلف باب موارب رأيته مرتديا روب أحمر فوق ملابس البيت».
«كان الرجل يعد الطعام لنفسه فى مطبخه وغرفة الاستقبال لم تخضع لعناية منذ فترة».
«لم يكن المشهد يليق بمفكر من حجمه أثرت كتاباته فى مجرى التفكير العام، ولفتت إلى دور الجغرافيا فى حياة المصريين».
«سألته: ليه كل ده؟».
«بدا رجلا تعرض لصدمة إنسانية فاقت طاقته على احتمالها لدرجة أنه أخذ يعاقب نفسه».
«سألته: لماذا هذه العزلة وإسهاماتك مراجع كبرى للباحثين والمثقفين والمعنيين بالشأن العام.. لماذا تفعل ذلك بنفسك وأنت الآن مؤثر لحدود لا تتصورها فى التفكير العام».
«أنت تعيد فكرة الرهبنة المصرية بالعزلة فى الخلاء لكنك منعزل فى فوضى».
«طالبته بأن ننتقل إلى مكان آخر يصلح للحوار فيه، أن يرى الحياة الطبيعية فربما تغريه بالعودة إليها».
بعد قليل ذهب الرجال الثلاثة إلى فندق شهير بحى الدقى يطل على النيل.
فى الحوار لطف إنسانى بدأه «حمدان»: «إنك تتصرف كلورد إنجليزى رغم صداقتك لجمال عبدالناصر؟».. مشيرا إلى سيجار فى يده يشعله بثقاب.
ابتسم لملاحظته سائلا عما إذا كان يريد أن يدخن سيجارا آخر يحتفظ به.
أخذ «حمدان» ينفث دخانه فى الهواء ناظرا إلى جريان نهر النيل والحوار يتدفق بعمق.
تدفقت تساؤلات «هيكل» على صاحب «عبقرية المكان»: «ما الذى جرى للمكان وعبقريته وكيف وصلنا إلى هنا؟».
«إلى أين حركة التاريخ ذاهبة فى هذا الموقع من العالم؟».
أجاب «حمدان» عن فيض تساؤلاته بكبرياء حزنه: «حركة التاريخ الدائمة قد تكون أحيانا إلى أسفل.. شهدنا انقلابا لأنه كان بين السكان من لم يقدِر ولم يرع حرمة وحق المكان».
شىء مما دار بينهما سجله فى مقدمة كتابه «أكتوبر ٧٣ ــ السلاح والسياسة»، الذى أهداه إلى «ذلك العالم المصرى الفذ»، غير أنه لم يدخل فى جو الحوار، ولا تطرق إلى بعض الأسئلة التى طرحها عليه الدكتور «جمال حمدان» فى حضور «مصطفى نبيل»، التى سجلها كتابة كما طلبت وألححت.
كيف تسكت يا أستاذ هيكل على ما يجرى فى مصر؟
أجاب الأستاذ: وماذا تريد أن أفعل؟
قال حمدان: لا تقل لى ما تردده أنك مجرد كاتب صحفى، فهذا غير صحيح، أنت زعيم سياسى يسلم بزعامته الكثيرون، فكيف لا تقود الشعب فى ثورة لإسقاط المعاهدة المصرية الإسرائيلية، خاصة أنك تتمتع بالثقة وبميزات لا يتمتع بها سواك، ولديك تجارب ومعرفة عميقة بالمسرح الدولى والأوضاع المحلية، عادة لا يتقن الحديث من يحترف الكتابة، ولكنك تتقن بالوقت نفسه الكتابة الراقية والحديث المقنع، وعادة لا يعرف التفاصيل من هو غارق فى الكليات، لكنك تجمع بين المعرفة الدقيقة بالتفاصيل والكليات معا، وعادة لا يعرف الفيلسوف المسائل العملية ولا يتقنها، وأنت تعرف الفلسفة ولديك قدرة عملية كبيرة، وعادة ما يكون المفكر السياسى غير محترف السياسة وممارساتها، لكنك مفكر سياسى فى ذات الوقت.
فلماذا لا تقود أهل مصر فى طريق الخلاص؟
أجاب هيكل عن فيض تساؤلاته: لقد جئت إليك حتى أسمع منك، ما تفسيرك لتدهور موقف مصر السياسى؟ ولماذا رحب البعض بهذه الاتفاقية؟
قال حمدان فى كلمة كالرصاص: إنه الطغيان].
قرب نهاية ذلك اللقاء الأول اتفقا على طريقة للاتصال المباشر لتحديد موعد لحوار آخر، أن تكون هناك رنة هاتف واحدة تتبعها رنتان بينهما فاصل.
وفى اللقاء الثانى بمكتب «هيكل» تبادلا الأدوار، «حمدان» يسأل وهو يجيب.
كانت لدى المفكر الجغرافى أسئلته عن رؤية «عبدالناصر» للصراع فى المنطقة، وأخذ أستاذ الصحافة يشرحها باستفاضة.
وهو يدخل إلى مكتب «هيكل» حمل الدكتور «جمال حمدان» معه نسخة من أثره الجليل «شخصية مصر» عليه إهداء يصفه بـ«أهم كاتب سياسى فى العالم وأعظم مفكر سياسى أنجبته مصر».
«قلت له: يا جمال هذه مبالغة».