رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كواليس لقاء "هيكل" بـ "شارل ديجول" بعد النكسة

هيكل
هيكل

احتفالا بالذكرى السنوية الأولى لرحيل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، تنشر «الدستور» الفصل السادس من كتاب "أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز"، للكاتب الصحفي عبد الله السناوي أحد أصدقاء الراحل المقربين.
ويتناول هذا الجزء كواليس لقاء هيكل الرئيس الفرنسي "شارل ديجول"، عقب نكسة 67، ناقلا رسالة الرئيس جمال عبدالناصر إليه، وتأثيرها ما دار فيها على عقلية الكاتب الكبير في استشرافه للمستقبل.
لم يكن الرئيس الفرنسى «شارل ديجول» بخلفيته العسكرية مستعدا أن يستمع لمداخلات دبلوماسية معتادة ومطولة تمهد للحوار وأهدافه. وكان ضيفه القادم من القاهرة، مقدرا دوره التاريخى فى الحرب العالمية الثانية كأحد أبطالها الكبار، قد هيأ نفسه فى طريقه لـ«قصر الإليزيه» لسيناريو يسجل فيه ــ أولا ــ ما رأى أن الرجل يستحقه بأدواره الاستثنائية فى تحرير بلاده من الاحتلال الألمانى من تحية ينقلها إليه باسم الرئيس المصرى «جمال عبدالناصر».. ثم ينتقل ــ ثانيا ــ إلى العلاقات التاريخية والتقليدية بين فرنسا ومصر، ويؤكد على استمرارها.. قبل أن يصل ــ ثالثا ــ إلى رسالته وموضوعها.
«عال يا مسيو هيكل.. قل لى ماذا تريد بالضبط؟».
«سقطت كل التمهيدات التى هيأت نفسى لها ذات صباح من سبتمبر عام ١٩٦٧».
«التفت إلى أن الرجل التاريخى يجلس خلف مكتبه على فوتيل، كبير لكنه ثابت، لا يتحرك يمينا أو يسارا على ما اعتاد زعماء آخرون، وأن المباشرة من مقومات شخصيته وطبائع تجربته».
«دخلت إلى موضوعى وفيه رهان لجمال عبدالناصر على دور لديجول بعد نكسة يونيو يخفف من وطأة الانحيازات الغربية لإسرائيل».
أكثر ما استلفت انتباهه فى ذلك اللقاء عناية «ديجول» بالخرائط، «وهذه من طبائع العمل العسكرى فالمعارك تجرى على مواقع وخطوط الاشتباك تتداخل وتمتد والتخطيط يتصل بالخريطة وتضاريسها والحقائق الإنسانية فوقها».
طلب «ديجول» خريطة وضعها أمام ضيفه: «انظر أمامك يا مسيو هيكل.. هذه مساحة العالم العربى.. وهذه مساحة إسرائيل، الهزيمة التى لحقت بكم مؤقتة بطبيعة الجغرافيا والحقائق السكانية فوقها، الوضع لا ينبغى أن يخيف، ومن ينظر عندكم إلى الخريطة لا بد أن يستشعر ثقة فى مسار المستقبل».
بلغة الخرائط أجاب «ديجول» على رسالة «عبدالناصر»: «اطمئن».. وكان ذلك أكثر مما توقعت القاهرة من باريس فى أحوال ما بعد (٥) يونيو.
فى ذلك الصباح ترسخ لديه «أن الصحفى بدوره لا يقدر على قراءة المشاهد المتحركة بتفاعلاتها وتعقيداتها ما لم تكن الخريطة ماثلة أمامه».
فى حواراته المطولة مع صديق «ديجول» ووزير ثقافته «أندريه مالرو»، صاحب رواية «الأمل»، تبدت نقطة تنوير جديدة لدوره هو فى تجربة أخرى على الجانب الآخر من المتوسط.
كلاهما ارتبط برجل تاريخى، أحدهما اقترب برؤية المثقف والآخر بموهبة الصحفى.
ذات صباح آخر على مائدة إفطار فى بيته دار حوار مثير فى موضوعه وتفاصيله مع الدكتور «إدوارد سعيد» صاحب «الاستشراق» حول المثقف والسلطة.
كان رأى «سعيد»، وقد نشرته ضمن حوار معه منتصف تسعينيات القرن الماضى: «المثقف يكف أن يكون مثقفا عندما يقترب من السلطة».
سألته: «حتى أندريه مالرو؟!».
أجاب «سعيد» بتحدى المثقف الكبير، الذى يعتقد فى سلامة أطروحته: «نعم».
وكان رأى «هيكل»: «أن التعريف على استقامته فيه تعسف، فماذا يفعل مالرو وصديقه الجنرال الذى أعلن المقاومة بعد هزيمة بلاده واحتلال عاصمتها أصبح رئيسا لفرنسا؟.. هل تقترح أن يقطع علاقته به وأن يعترض على تولى وزارة الثقافة الفرنسية حتى يكون بالتعريف مثقفا؟».
فى نهاية مساجلة بين صديقين أبدى «سعيد» تفهمه أن هناك حالات فى التاريخ تستعصى على التعريف الذى اعتمده تدخل فيها علاقة «محمد حسنين هيكل» بـ«جمال عبدالناصر».
فى التجربة الفرنسية تجلت أمامه حقيقة جديدة هى أن قراءة الخرائط وتفاعلات الحوادث فوقها تتخطى خطوط الجغرافيا الصامتة إلى سؤال الثقافة بين سكانها.
وبدت إيماءة «ديجول» إلهاما جديدا لعناية أكبر بالخرائط أخذت بالوقت تتسع حتى احتلت نسخا نادرة لثلاث خرائط مصرية قديمة حائطا خلف مكتبه وأزاحت لوحات تشكيلية لفنانين كبار عالميين ومصريين.
كانت الخرائط سيدة المكان بلا منازع.