رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكاية شهادة عبد الناصر على زواج "هيكل"

هيكل وعبد الناصر
هيكل وعبد الناصر

احتفالا بالذكرى السنوية الأولى لرحيل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، تنشر «الدستور» الفصل الرابع من كتاب "أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز"، للكاتب الصحفي عبد الله السناوي أحد أصدقاء الراحل المقربين.

وفي هذا الجزء يلقي الضوء على البدايات الأولى لهيكل وكيف أثّرت النشأة في تشكيل وجدانه ليذاع صيته فيما بعد ويشار له بالبنان كأشهر صحفي في الشرق الأوسط دون منازع، خارج كل ما يمكن تقبّله، أو تعقّله، أو تفهّمه.. وإلى نص رواية "السناوي:

ولد في ٢٣ أيلول/سبتمبر ١٩٢٣ لأسرة متوسطة الحال أصولها من صعيد مصر، ثم وهبه والده للأزهر، كما وهب أخويه الكبيرين للتجارة، غير أن والدته، وهي الزوجة الثانية، أصرت على إلحاق ابنها بالتعليم المدني وإعطائه فرصة أوسع للحياة.
للآن توجد صورة لهيكل الصغير بزي الأزهر الشهير لدى إحدى شقيقاته.
استرق السمع لأمه وهي تقرأ لأبيه نصوصاً مكتوبة من السير الشعبية، التي بهره سحر خيالها. لم تتصور الأم، ولا الأب، أنه كان يسمع ويتأثر وأن الحكايات سيطرت على وجدانه بالكامل، أو أنها سوف تلهم مستقبله.
كان الجد يصحب حفيده للاستماع إلى قراء العصر في رحاب الحسين، من بينهم الشيخ علي محمود، والشيخ الشعشاعي، والشيخ محمد رفعت، الذي لم يفارق جلال صوته مخيلته أبداً.
حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب في الخامسة، أو السادسة من عمره، على يد الشيخ قاسم، وقرأ ما تيسر له من كتب في مكتبة جده.
تحدى ظروفاً قاسية داهمت عائلته منعته من التقدم في التعليم إلى آخر مراحله، علم نفسه بدأب، التحق بالقسم الحر في الجامعة الأميركية لتعلم الإنكليزية، ومر على القسم الحر في مدرسة الليسيه لتعلم الفرنسية، التي أتقنها مثل الإنكليزية وقرأ بها، كما حضر دورة دراسية في كلية الصحافة في جامعة في نيويورك، ودورات مماثلة في جامعات غربية أخرى، بل إنه حضر دورة دراسية في الجامعة الأميركية في علم الاجتماع السياسي بعد خروجه من «الأهرام».
لم يستنكف منتصف سبعينيات القرن الماضي أن يجلس على مقاعد الدرس من جديد بالوقت الذي رفض فيه تعيينه مستشاراً لرئيس الجمهورية، أو نائباً لرئيس الوزراء في حكومة ممدوح سالم.
بأي قياس اعتيادي، فإن رفض المنصب الرسمي الرفيع والجلوس مجدداً على مقاعد الدرس، وهو أقوى وأشهر صحافي في الشرق الأوسط دون منازع، خارج كل ما يمكن تقبله، أو تعقله، أو تفهمه.
بمنطقه هو، فإنه تأهب بزاد إضافي من العلم لدخول مرحلة جديدة من عطائه العام أسفرت عن مجموعات كتبه التي أرخت ووثقت للصراع على مصر. ما لم يكن متقبلاً، أو متعقلاً، أو متفهماً ساعده في الوصول إلى آفاق لم يصلها أحد قبله.
«في كل مراحل حياتنا هناك أستاذ يعلم ويؤثر بأكثر مما نتصور وحياتنا تتوقف على الطريقة التي نستقبل بها المقادير، نشيطين في التفاعل معها أو بليدين».
هكذا قال بعدما استكملت تجربته مقوماتها كلها.
كان ممن يعتقدون أن المشاعر تخص أصحابها.
تزوج عام ١٩٥٥ بالسيدة هدايت تيمور، وشهد جمال عبدالناصر على عقد الزواج، ولم يكن يفضل التطرق إلى حياته الأسرية في الصحف. لمرات عديدة أبدى ضيقه من بعض ما يُنشر عن حياته الشخصية، معتقداً أنها ملكه وحده. وقد اختار لأبنائه وأحفاده مهناً أخرى غير الصحافة حتى لا يظن أحد أن ما يحصدونه من فرص في المهنة مجاملة لأب، أو لجد.
سألت كبرى حفيداته هدايت علي هيكل عندما كانت في سنتها الأولى في الجامعة الأميركية: «لماذا لم تدرسي الإعلام؟».
رد جدها بالنيابة: «يكفي واحد من عائلة هيكل».
رغم حرصه البالغ على خصوصية حياته العائلية، فإنّ كل من اقترب منه يكتشف دون عناء الدور المحوري الذي لعبته السيدة هدايت تيمور في صياغة ظاهرته الفريدة.
ذات مرة وصف علاقة جمال عبدالناصر بحرمه تحية كاظم، بـ»الولاء». «عنده ولاء لها»، يضايقه أن تحزن ويرضيه ما يسعدها. ذلك معنى أعمق وأهم وأجمل من عبارات الحب الاعتيادية.
نفس الوصف ينطبق على علاقته هو بحرمه.
عندما أُخضعت لتدخل جراحي حساس في لندن، واضطر أن يعود إلى القاهرة لفترة قصيرة بسبب ارتباطات لا تحتمل تأجيلاً، كان قلقاً بصورة أفقدته رغبة الحديث، يسمع ولا يتكلم، فمشاعره هناك حيث ترقد مريضة.
سألته: «هل تعرف أنك تحبها إلى هذا الحد؟».
كانت تعرف بأكثر مما قدرت.
لم يكن يخفي عنها شيئاً لكنه أبعد أولاده علي وأحمد وحسن بقدر ما يستطيع عن شواغله وأزماته، وبعضها مزعجة.
ولم يكن يخفي ضيقه البالغ من الخلط بين دوره العام وطبيعة عمل أولاده، فإذا ما اعترضت أحدهم أزمة ما فإنه يتم تعريفه في العناوين الصحافية بـ «نجل هيكل»، رغم أنه يستطيع أن يتحمل مسؤولية تصرفاته.
هو رجل عوّد نفسه على احترام حقائق الحياة، لكن مشاعره غلبته على نحو فادح عند رحيل شقيقه الأصغر الدكتور فوزي هيكل، الأستاذ في الجامعات الأميركية.
لم يكن الدكتور فوزي يذكر اسم شقيقه الأكبر إلا مسبوقاً بـ «الأستاذ» حتى في أحاديثه الخاصة على ما أكد لي أصدقاؤه، ومن بينهم الدكتور أشرف البيومي، والدكتور كمال خلف الطويل.
سألته: «لماذا اتسعت المسافة مع شقيقك الوحيد إلى هذا الحد؟»
قال: «لا تنس فارق السن، خمسة عشر عاماً، وقد تكفلت برعايته وتعليمه بعد أن توفي والدنا، فهو ابني بكل معنى إنساني، لا أخي كما تقول شهادة الميلاد».
وقد بكاه بحرقة أب على ابن.
بالإضافة إلى فوزي، فهناك ثلاث شقيقات ارتبطن به، وكان مثيراً أنهن تزوجن من ثلاثة أشقاء، بعضهم سفراء.
تحدث كثيراً وطويلاً عن والدته ودورها في حياته، لكنه لم يكن يتطرق إلى والده.
في سنواته الأخيرة، وتجربته في الحياة اكتملت، بدأ يستعيد شيئاً من ذكرياته القديمة، وتوقف عند واقعة عابرة لكن كان صداها عميقاً في ذاكرته.
التفت قاضٍ يقف أمامه الحاج حسنين هيكل، إلى اسمه.
سأله: «هل لك صلة يا حاج بالأستاذ محمد حسنين هيكل؟».
كان اسم الابن قد بدأ في الذيوع.
أجاب الأب: «إنه ابني».
في تلك اللحظة استشعر والده بأن نجله لم يكن مخطئاً في اختيار مهنة الصحافة على عكس إرادته. كأي ابن، مهما طال الزمن وتقادمت العقود، فإنه يحب أن يرى نجاحه في عين أبيه قبل أي عين أخرى. لم يكن اسمه الذي يعنيه، بقدر رضا والده عنه.
في مرة ثانية، سألته شخصية بريطانية عما إذا كان هو محمد هيكل الصحافي المصري المعروف، أم أن هناك تشابها في الأسماء.
أجابه: «هو نفس الشخص».
لم يضايقه أن شخصاً ما لا يعرف شكله بينما هو يقرأ له.
تذكر ما قاله له صديقه وطبيبه الدكتور محمد عبدالوهاب، من أن سيدة تونسية أقدمت على زوجته فاتن حمامة متهللة ومرحبة: «كيف أحوالك يا ست نعيمة عاكف؟».
كانت تلك مفارقة مدهشة لأشهر وجه سينمائي عربي.
«لست من هواة الأفلام.. ولا أنا ناقد سينمائي، وإنما أحسست بروح جديدة وأنا أشاهد فيلماً مصرياً لأول مرة منذ سنوات»... «ولقد رأيت فاتن حمامة بعدما كبرت، فإن آخر مرة رأيتها عندما ظهرت مع عبدالوهاب في فيلمه القديم دموع الحب منذ ما يقارب خمسة عشر عاماً».
هكذا كتب في يومياته في «أخبار اليوم» يوم ١١ شباط/فبراير ١٩٥٦ عن فيلم «صراع في الميناء»، الذي رآه «قطعة من صميم الحياة.. قطعة فيها فكرة.. ولها روح.. ووراءها هدف».
لم يعرف فاتن ولا اقترب منها حتى تزوجت من صديقه، غير أن ما كتبه متأثراً بـ«صراع في الميناء» عن «أهمية دعم الدولة لصناعة السينما حتى لا تضمحل» تحوّل بدعوات أخرى مماثلة إلى خيار رئيسي لثورة ٢٣ يوليو.