رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جلال حمام يكتب: الكيف.. يكشف عورة المحليات.. وماذا بعد؟


مصر بلد العجايب.. القانون فيها غايب.. كوباية الشاى بمائة جنيه.. وممكن تدفع روحك قصادها، لو تجرأت وفكرت تعترض على استغلال فاضح وعلنى، وغير بعيد عن أعين الجهات المسئولة، وبالتأكيد، بمباركة بعض أفرادها، لأننا متفاهمون، وكُله بيُرزق، حتى لو كان الضحية، مواطنا كان مُخيرًا بين الدفع المُستغِل، أو الموت غِيلة!.. هذا بالضبط، ملخص ما كان، يا سادة يا كرام، من أمر كافيه «كيف» عشية مباراة مصر والكاميرون، فى نهائى كأس الأمم الإفريقية، والذى راح ضحيته، شاب عشريني، اعترض على دفع ما فرضه أصحاب الكافيه، حقًا مكتسباً، لاستغلالهم رواد مقهاهم.

لن أقف عند حدود الحكاية، فالكل يعرف تفاصيلها، ولا عند واقعة القتل، لأن إزهاق أرواح العباد أصبح لدى البعض أسهل من ذبح دجاجة، مع أن الحق، سبحانه وتعالى، جعل هدم الكعبة المشرفة، أهون عنده من إراقة دم إنسان، لكننا لم نعد نعرف حق الإنسانية، ولم نعد نؤمن بما تحض عليه الأديان، من أن من قتل نفسًا بغير نفس، فكأنما قتل الناس جميعا.. لكن للحادثة ماوراءها، من تشوهات مجتمع أصابه العطب، فى ضميره وأخلاقه وقيمه الإنسانية.. وتنزع ورقة التوت الأخيرة عن سوأة المحليات فى مصر، الغارقة فى فسادها إلى الأذقان، ولا أحد يتحرك، ولا قانون يتغير.. فإذا أدركنا أن المحليات مفصل رئيسى من مفاصل الدولة، لأدركنا أنه لن يقوم للدولة المصرية مقام، مالم يعتدل الحال المايل فى هذه الإدارات التى تمتد بطول مصر وعرضها، واستوحش فسادها.

تستند المخالفة، فى أى مكان من ربوع مصر، على رغبة من شخص فى المخالفة، بغية تحقيق مكسب ما، وتدليس من موظفى المحليات، الذين امتلأت كروشهم وعلت عروشهم بالمال الحرام.. إذ من غير المعقول أن تتطاول أبراج فى البنيان، بين يوم وليلة، وفى غفلة عن أعين الناس، فما بالنا بأعين هؤلاء الموظفين، الذين يشتمون رائحة المخالفة على بُعد أميال، ليس لمواجهتها، بل للاستفادة من نشوئها واستغلال مرتكبها.. وبمنطق «إحنا الحكومة»، فالورق ورقنا، والأقلام أقلامنا.. وغاية ما فى الأمر، وذرًا للرماد فى العيون، يمكن تحرير مخالفة يُعاقب عليها القانون بغرامة يسيرة، لا تتناسب أبدًا مع حجم الجُرم الذى يرتكبه المخالفون، من تحميل مرافق الدولة أعباء وضغوطا ليست مؤهلة لها، وتعريض أرواح بريئة لغائلة الموت، إذا ما انهار هذا العقار أو ذاك، لأن أساساته لن تتحمل تعلية فى الأدوار.. و«المحضر» موجود فى الأدراج، أثبتنا فيه أننا قمنا بما علينا، يخرج عندما تقع الكارثة!.

يقولون إن حملة من مديرية أمن القاهرة وإدارة شرطة المرافق، والإدارة العامة لمباحث القاهرة، أسفرت خلال خمس ساعات، عن إغلاق 32 مقهى مخالفاً، فى النزهة ومدينة نصر ومصر الجديدة.. فكم يكون عدد المقاهى المخالفة فى ربوع المحروسة، بل فى أنحاء الجمهورية؟.. عِد وانس، فالعدد فى الليمون، لأن موظفى المحليات جعلوا من الدولة كيانًا هشاً، ومن القانون فريضة غائبة، لأنهم أهانوا الدولة ولم يخشوا سطوتها، وامتهنوا القانون، يوم أن مدوا أياديهم للمال الحرام، فتقاضوا الرشاوى وفرضوا الإتاوات على المخالفات، عملًا بمنطق، نفسى نفسى، ومن بعدى الطوفان.. ودائمًا ما تلتقى أهواء الطماع والجشع، والضحية، مجتمع يعانى ويلات أزماته، فإذا ما اشتكى، فالمسئولون، أذن من طين وأخرى من عجين، لأنهم يعرفون كل شىء، وعلى أيديهم قام هذا الشىء.. ولعلى كنت واحدًا من الناس، ممن بُح صوتهم، ونفد مداد قلمهم، مرات ومرات، ننادى فى مسئولى الجيزة، لتصحيح الأوضاع المعوجة فى كثير من أحياء هذه المدينة الكبيرة، ذات الشهرة السياحية.. لكن ما من مجيب.. لقد أسمعت إذ ناديت حياً، لكن لا حياة لمن تنادى!.

لقد أدهشتنى، تلك المشاهد المصورة، للبلدوزر وهو يحطم واجهات المقاهى المخالفة، بعد حادثة القتل فى النزهة، لأنى رأيتها تزيدًا فى العقاب على جرم، بأيادى مسئولى المحليات، الملوثة بذنب ما جرى!.. لأن تلك المشاهد، إن عكست فداحة الخسارة الاقتصادية لأموال ـ فى النهاية ـ مصرية.. فإنها تثير السؤال الأهم: أين كان هؤلاء، يوم برزت هذه المخالفات للوجود؟.. بل أين كانت كل الجهات التى تراقب مثل هذه المنشآت، والتأكد من حصولها على التراخيص المطلوبة؟.. وهل تأكدت من المطابقة الأمنية للمنشأة والعاملين فيها؟.. وهل طبقت الاشتراطات البيئية، وحفظت حق المواطن فى شوارع وأرصفة، تم الاستيلاء عليها، جهارًا نهاراً، لتكون جزءًا من هذه المنشآت، فاعتدت بذلك على ما هو للمواطن، فى الشارع والرصيف الذى يمشى عليه؟!.. لماذا نكون دائمًا «رد فعل»، ولا نكون مبادئين بالفعل الذى يضبط إيقاع الحياة، فى بلد يحتاج تضافر الجهود والالتزام بالقواعد، من أجل إعادته للحياة، بعد موات لأكثر من ثلاثين عاماً؟!.

أرانى أعود إلى ذات نقطة البداية.. القانون.. تشريعًا وتطبيقاً.. فمازالت قوانيننا قاصرة عن مواجهة السلبيات وردع مرتكبيها، وبات التهاون فى تطبيق ما بين أيدينا من هذه القوانين، شريعة سارية، إلى أن تقع الكارثة، فنبحث عمن كان السبب.. نتحمس، ونتهور فى رد الفعل، ثم سرعان ما تخبو نيران هذا التهور، ثم تعود ريما لعادتها القديمة.. ليبقى البرلمان مسئولًا الآن، عن وضع قوانين رادعة، تُنهى عن الفعل وتجرمه، وتعاقب من لم ينته عن هذا الفعل، وأيضًا تعاقب من تهاون فى الحيلولة دون وقوع الفعل من موظفى الدولة.. وبعدهم تأتى جهات إنفاذ القانون، كما تفعل كل دول العالم.. أم تظننا أننا لم نعد بعد واحدة من دول هذا العالم؟!.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.