رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يا مصر.. أخشى عليك من الكآبة وسوء المُنقلب


أغلب روافد الحياة الآن تُفضى إلى الكآبة.. والكآبة وهبت بنوتها الشرعية لفقدان الثقة.. وفقدان الثقة يُفقد كل شىء محتواه.. يُفقد اللذة لذتها، ويُفسد على المفاخر زهوها.. وما أكثر ـ وللحق ـ ما بين أيدينا الآن ما نفتخر به، لكن الغلاء صنع حالة من التشويش على إدراكنا لما يحدث حولنا من إنجازات تستوجب الصبر على نتائجها، والجلد على ما تستحقه من ثمن، شريطة أن يقوم كلٌ بدوره، وما ينبغى عليه، حتى يهون الصعب، وقبل أن يحتاج الصبر إلى صبر عليه، لأنه بدأ يضج بأفاعيل من يستغلون الظروف تحقيقاً لمكاسب، هذا أوانها عندهم، وإن لم يستغلوا الحالة الآنية، لن يجدوا مثلها مستقبلاً، غير عابئين بقيم إنسانية ولا بضغوط اقتصادية تفُت فى عضد المواطن الغلبان، حتى بدأت قواه على التحمل شىء تخور، وصارت الكآبة عنواناً للمشهد، وأخشى عليه من فقدان الثقة، لأن كل بعدها، سيصبح هباءً منثورًا.



انفلت عقال الأسواق، وارتفعت الأسعار فى كل يوم، بلا مبالغة أو تهويل منى، دون مبرر، اللهم إلا عنواناً، ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، «تعويم الجنيه»، ينطبق حتى على ما ليس به علاقة بالدولار!.. فهل يُعقل ـ مثلاً ـ أن يرتفع سعر زجاجة المياه، بفعل انقطاع مياه الشرب عن مدينة الجيزة، اليومين الماضيين، من سبعة جنيهات إلى خمسة عشر جنيهاً.. وهذا مثال ليس له علاقة بالاستيراد ولا بمكونات الإنتاج المتأثرة بالأخضر العملاق.. فأين أولو الأمر من هذا وغيره؟.. وإذا كنا نرى رجال الرقابة الإدارية لا يألون جهداً فى محاولة رقابة الأسواق، والسيطرة على جنون الأسعار، بل ومتابعة الجودة والصلاحية، فلا تثريب عليهم، ولكنه يبقى جهداً يحتاج لما يسنده من تشريعات برلمانية، تجرم كل فعل يتجرأ على حياة المواطن، ويهدد استقراره وسلامته، وهذا أمر يحيرنى كثيراً، تجاه هذا النوم فى العسل من النواب حيال قضية حياة أو موت.. وهل هناك أخطر على الإنسان من ذلك الانفلات فى الأسعار، الذى يؤدى وأنا مُصرٌ على ذلك ـ إلى فقدان الثقة، فى كل شىء حولنا؟!.

أذكر تلك السيدة البريطانية، التى ذهبت إلى السوق، فى ضاحية من ضواحى لندن، فإذا بأسعار الأسماك وقد ارتفعت، فلم تقدر على شرائها.. ومن سمات الإنجليز أنهم يسجلون قائمة باحتياجاتهم من الأسواق قبل نزولهم إليها، ويأخذون من المال ما هو مطلوب بالضرورة لشراء تلك الاحتياجات.. وقبل أن يقول قائل: «بلاها سمك!»، أؤكد أن الإنجليز مغرمون بما يسمونه ساندويتشات الـFISH&CHIPS.. المهم أن هذه السيدة لم تتنازل عن حقها فيما تود شراءه.. ذهبت إلى مبنى مجلس العموم البريطانى، وطلبت مقابلة نائب دائرتها التى اختارته مدافعاً عن حقوقها.. وعندما اعترض الأمن على دخولها قاعة المجلس الذى كان منعقداً، راحت تنادى باسم هذا النائب، حتى سمعها رئيس المجلس.. قام إليها وسألها عن حاجتها، قالت إنها تود إيصال رسالة إلى النائب الذى يمثلها.. اصطحبها إلى القاعة، وأعطاها الكلمة، لتقول ما لم تفصح عنه للرئيس.. قالت عبارة موجزة، إنها انتخبت النائب مدافعاً عن حقوقها، لا ليكون عوناً للتجار عليها، حتى ولو كان فى سعر سندويتش سمك، ارتفعت تكلفته دون مبرر واضح!.. وكانت استقالة النائب من عضوية البرلمان، أقل اعتذارًا منه، للسيدة التى أُضيرت فيما هو حق لها!.

أذكر ذلك، لأتساءل: ما السبيل الذى سلكه برلماننا للحيلولة دون هذا السُعار المجنون للأسعار، الذى أثقل كاهل المواطن، وأصبح حملاً تنوء به الجبال، فما بالنا بمواطن بسيط، دخله محدود، وموارد رزقه ثابتة، وقد ركبت الأسعار قطار الشرق السريع، دون توقف فى المحطات؟.. بل لماذا نترك كل أمر معلق برقبة رئيس الدولة، دون أن تتولى كل جهة أمر مسئوليتها، كلٌ فيما يخصه، بعيداً عن المسكنات، أو التحركات التى لا تهدف إلا للمظهرة، وأن هناك من يتحرك على الأرض، لكنه يظل حراكاً، كـ«الجعجعة»، بلا طحين.. صحيح أن على الرئيس مسئولية سياسية، تجاه مواطنيه، لكن الوزير والمحافظ، عليهما مسئولية سياسية، وأخرى تنفيذية، هى الأهم، والأقدر على تغيير الصورة للأفضل.

نعم.. تتضافر جهات عديدة فى الدولة، لمحاولة قطع الطريق على هذا الجشع المُستعر، بتوفيرها ـ قدر استطاعتها ـ ما يمثل زاداً ضرورياً للمواطن، لكنه يظل جهداً يتوازى، ولم يتقاطع مع الجشع، لأن هذه الجهات حاولت توفير بعض اللازم لحياة المواطن، لكنها لم تجد حضوراً للبرلمان، الذى ظل غائباً عن المشهد، دون تشريع يُجرم كل ما يهدد حق المواطن فى العيش الكريم، وهذا المواطن لا يريد هذا العيش الكريم الآن، تقديراً منه للظروف الصعبة التى تمر بها البلاد، وتصديقاً لوعود الرجل الذي وثقوا به، وأئتمنوه على حياتهم، وانتظاراً لثمار التنمية التى تحدث على أرض المحروسة.. لا يريد هذا المواطن إلا الممكن والمتاح، لتستمر حياته بما يوصله إلى الغد المأمول، لكن البعض يُصر على خنقه ووأد تطلعاته.. فهل سنقف متفرجين أمام هذا العبث الذى له ما له، من فقدان المواطن للثقة فى دولته وحكومته، وربما قيادته، التى آمن بها، وتحمل معها العنت، بصبر أوشك على النفاد، ورصيد من المحبة، يُمسك مقاولو الهدم بمعاولهم، أملاً فى أن ينفرط عقد هذا الشعب يوماً، ويتوه منه الحب، تحت وطأة الجوع.. صحيح، نحن حيال شعب أصيل، لكن للمعدة تأثير على الدماغ، وأحياناً يكون للدماغ رأى آخر!.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.