رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طاهر البرنبالى.. قلبى عليك يا خى


(أنا بس باشتكيلك.. وبافك عن نفسى

بدل ما أموت فى ضل السكات)

لا شىء أصعب من المرض مع قلة الحيلة، وضيق ذات اليد.. أقولها وأنا ألعن المرض، وأتمنى لو أسحقه تحت حذائى.. أقولها ساخرًا وهازئًا من حياة عشناها، ونعيشها، أسود من قرن الخروب.. يا الله! لماذا الشعراء وحدهم، وأكثر من غيرهم، يدفعون ثمن إبداعهم فقرًا ومرضًا على حياة عينهم، أى ذنب جنوه.. أجساد تتهالك مثل أوراق الشجر وأرواح تعتل فقط لأنها تحب الكتابة وتعشق الوطن، ولا مانع طبعًا من عشق المرأة والجمال والحق والعدل والخير والحرية.. والحياة أولاً وأخيرًا.



(هو قلبى ولَّا قلبك محتاجين «دار الفؤاد»

الحكاية يا حبيبتى مش نسيج محتاج نسيج

أو كلام يشعل مشاعرى.. يصحى خيل الليل يهيج

الحكاية مش مساومة أو مزاد)

يحدث هذا وأنت لا تملك إلا الخجل حين ترى صديقًا فى شدة.. فلا أنت تستطيع أن تمد يدك بالمساعدة، ولا أنت تجرؤ على دفع الناس إلى مساعدته خوفًا من أن يتحول الموضوع، فى نظر البعض، إلى استجداء «بايخ»!

(تلاتين سنة والبحر عازب

تلاتين سنة والبحر يحبل بالشطوط

والحمل كاذب)

سنوات طويلة عشتها فى مكان واحد مع الشاعر طاهر البرنبالى، منتصف الثمانينيات تقريبًا، كنا نقتسم غرفتين فى شقة بمنطقة «الكوبرى الخشب»، وكنت أخجل وأقول «مقار».. كان «طاهر» مرتبًا جدًا لدرجة «تغيظ»، فيما كنت فوضويًا لدرجة البهجة.. وماذا تعنى فوضى الغرفة مقارنة بفوضى الحياة.

وكونه طبيبًا بيطريًا اهتم «طاهر» بالحفاظ على صحته.. لا تدخين، لا شاى، لا قهوة، لا سهر، فضلاً عن حرصه على تناول أطعمة يراها صحية، غالبًا ليست من الشارع ويطبخها بنفسه، فبعد تعيينه فى المجزر الآلى كان يصرف من الجمعية الاستهلاكية الخاصة بعمله ما يشبه التموين الأسبوعى من كراتين بيض، و«فراخ بيضا»، وكانت موضة آنذاك.. كأنى أراه الآن منزعجًا تاركًا غرفته، ويؤكد لى، أنا و«عبدالجيد» ابن خالى، أن فأرًا دخل غرفته، بدليل علامات أسنانه على ثمرة طماطم، فينفجر «عبدالجيد» ضحكًا.. كانت أسنان «عبدالجيد»!

(قلبى داق الإختيار واترمى فى حُمَّى الجراح

واللى راح م العمر راح كان بيتمنى يلاقيكى)

يغضب «طاهر» جدًا حين يرانى أميل على «زير» فى الشارع وأشرب منه: «إزاى تعمل كده وإنت راجل مثقف، دى أكيد ميّه ملوثة».. أضحك ولا أشغل بالى بتحذيراته من المرض، وفى سرّى أتهم بـ«الوسوسة».

(شوف ست سنين من عمرك فاتوا إزاى

من غير ما نحس

تيودور بلهارس ما كانش بيفهم فى الأشعار)

تأثر «طاهر» جدًا برحيل صديقنا الشاعر خالد عبدالمنعم وهو فى عمر الزهور، وكان «خالد» فى مكانة شقيقه الأصغر.. من منَّا لم يحزن على «خالد»؟!، كلنا بالتأكيد وإلى حد البكاء، لكن حزن «طاهر» كان يفوق الوصف، كان يبدو، وأظنه إلى الآن، حزنًا أبديًا.

(مفضوح يا قلبى فى كل لحظة شجن

وفـ كل رعشة وطن

وف كل عشق جديد)

وكأن كابينة تليفون العملة، وكانت فى ميدان طلعت حرب وقتها قبل اختراع «الميناتل» على أيامنا، كأنها محجوزة باسم «طاهر»، كل من يأتى مقهى البستان ويسأل عنه، أدلّه على مكان الكابينة فيلتقيه هناك.. «طاهر» أكثر واحد قابلته فى حياتى يحتفظ بالعملات المعدنية من فئة الخمسة والعشرة قروش.. هناك كان يقف بالساعات ممسكًا بسماعة التليفون، ولا أحد يملك الإجابة عن سؤال: «يا ترى طاهر بيكلم مين؟! بيحب، بيتصل بشركات إنتاج الكاسيت، بيعمل حوار لجورنال، بيتكلم مع مطربة أو ملحن!».

(وسألت بحر الهلاك

يا بحر مين سمّاك

فلاح بطين الأرض ولّا

ولد سمّاك

مرجح خيوط الشبك

بين ميِّتك وسماك)

شعريًا، كان «طاهر» ولا يزال من قماشة الشاعر «القوال»، هو يكره قصيدة النثر، يراها أحدثت فجوة بين الشاعر والمتلقى، الحكاية هنا لها علاقة بذائقته الشعرية الخاصة، لا بالتنظير، أو بصراع الأجيال، إنه لا ينشغل كثيرًا بتلك الأشياء، هو أولاً: ينشغل بكتابة «موضوع» حى يهم الناس، أو أنهم - الناس - أهملوا «موضوعهم» فيذكرهم به، متوسلاً الموسيقى، معتمدًا الصور الشعرية البسيطة الطازجة، دونما تعقيد، حتى إنها من بساطتها تبدو سهلة، وهى ليست كذلك، ثم ثانيًا: ينشغل بالجمهور.. الجمهور يمثل فرحته الكبرى، وأظنه زار غالبية أقاليم مصر، القرى والنجوع، وأعطى لناس هذه البلاد شعرًا كتبه خصيصًا لهم.

(عشر بلابل وعدونى يستنونى

ويصفوا عسلى من مناحل روحى)

باستثناء قصائد كتبها «طاهر» مباشرة عن القضية والوطن والشهداء، وأخرى فى رثاء الأصدقاء، كنت أتحير وأنا أستمع إليه وأتساءل عما إذا كان يتغزل فى حبيبته أم فى مصر، حتى إن الأمر اختلط علىَّ كثيرًا لدرجة الشك، وأنا المدرب على تلقى الشعر!

(الجرح واحد.. والجانى واحد

واللى بينسى صرخته وقت الألم.. جاحد)

«طالعين لوش النشيد» هو ديوان «طاهر» الأول، وصدر أواخر الثمانينيات، وحقق شهرة واسعة آنذاك ربما لأنه صدر أثناء سجنه، ثم توالى صدور أعماله الشعرية: طفلة بتحبى تحت سقف الروح، طارت مناديل السعادة، طريق مفتوح فـ ليل أعمى، طلعت ربيع دار الفؤاد، طرطشات الذات والبنات، طوابير رايحين للجنة.. فضلاً عن حوالى 12 عملًا للأطفال.

(كل السكك فى الحياة بتشد وبتغرى

إلا مسار الحق بتروح لُه وبرجليك)

أخيرًا.. وبحكمة الفلاح الفصيح، يقولها طاهر البرنبالى.. يقولها عزيزًا وهو أدرى بحاله وبحال الكثيرين منَّا على أرض هذا الوطن:

(لو عزيز جوّا بلدك

برَّه بلدك تبقى قيمة

لكن إنت بكل طيبة

والنوايا أكيد سليمة

سبتْ روحك للى باعك

خردة للعالم قديمة

واللى فرط فـ انتصارك

دوّقك طعم الهزيمة)

اللهم لا استجداء إلا منك وحدك، لا غيرك، ندعوك أنت وحدك، لا غيرك، أن تكتب لصديقنا الشاعر طاهر البرنبالى، ولكل أحبائنا، الشفاء العاجل يا رب العالمين.