رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اللي باقي من يناير


أعرف جيدًا الفارق بين الثورات والغضب .. لكننى لحظة أن انفجر المصريون - قطاع كبير منهم- فى القاهرة وبعض المحافظات لم أكن فى حال يجعلنى أصدق أن ما يجرى فى البلد «ثورة» .. كان هناك شىء غامض فى الأمر، يجعلنى لا أصدق ذلك «الانفجار» الذى انتظره الملايين من أبناء جيلى.. وبعضهم دفع ثمنًا كبيرًا لمجرد انتظاره.

صباح ذلك اليوم كنت فى مبنى ماسبيرو.. وشاءت الصدفة أن أقضى معظم اليوم فى المكتب الملاصق لمكتب وزير الإعلام وقتها- أنس الفقى. كان الأمر فى بداية اليوم يبدو لكل من جاء ليهنئ الفنان أشرف زكى بيومه الأول فى مكتبه كمساعد لوزير الإعلام- يبدو عاديًا.. لدرجة أن الزميل عمرو الخياط- كان مشرفًا على برنامج «مصر النهارده» - اقترح أن تنزل الكاميرات لتصوير فرح بلدى فى مراكب صغيرة يمر أمام ماسبيرو.. ليذاع جنبًا إلى جنب مع تفاصيل المظاهرات فى ميدان التحرير التى لم تكن قد صارت بالآلاف بعد.
ثم توالت الأحداث التى تعرفونها جميعًا.. سقط شهداء.. واعتلى المنابر أفاقون.. وصار بعض أطفال المقاهى ساسة ونشطاء.. واحتلت «الدقون» مقدمة المشهد التليفزيونى حتى صار «أحمد أبوبركة» نجمًا تفوق شهرته شهرة أحمد عز- الفنان والاقتصادى.
وجرت فى النهر مياه- عفنة- وانزوى الحقيقيون من أبناء يناير حتى٣٠ يونيه.. بعضهم انزوى مجددًا.. وانقسم المصريون الذين أظهروا أجمل ما فيهم فى ١٨ يومًا.. ثم تبخروا.. إلى فئات شتى .. وطوائف شتى.. وأصبح العراك لا الاختلاف دستورًا .. باخت السياسة وارتبك الاقتصاد.. وحتى الكرة التى يدمنها المصريون لم تعد ممتعه خالص.. بدليل أننا الآن منقسمون.. تلت مع أبوتريكة ولو كره التلت التانى.. وتلت تالت عمال يتفرج ويضحك!.
صارت لقمة العيش همًا.. والتعليم ترفًا.. والمواصلات رحلة عبث يومية طاحنة.. حتى وجدنا بيننا من يتنطع بأن أيام مبارك يا ليتها دامت.. والأخطر أن فكرة التغيير ذاتها صارت لعنة لكل من ينادى بها.. بعدما استقر فى ذهن البعض أن التبلدُّ يعنى الاستقرار.
لا أزعم أننى من أبناء يناير.. وإن كان من بينهم أصدقاء نبلاء، أعرف نواياهم وغيرتهم وصدقهم جيدًا.. ولا أزعم أننى من أعدائهم أيضًا.. لأننى مثلهم حلُمت لأهلى وبلادى بحياة أفضل.. انقلب الربيع العربى على العرب.. وبانت ضحكة المستعمر الذى جاء فى ثوبه الجديد صفراء من غير «سوء».. أو بالسوء كله.. لكن حلم التغيير يظل حلمًا.
الذين كانوا أطفالًا فى يناير لم يبلغوا الحلم بعد، صاروا رجالًا الآن.. مشدوهين من انقسام أعمامهم وأخوالهم.. لا صرنا عربًا.. من الخليج إلى المحيط.. ولا انتصرنا لمصريتنا التى كان ينادى بها البعض.. بقينا «ميت مصر فى بعض».
هؤلاء الأطفال الأنقياء هم الذين يدفعون ثمن شتاتنا الآن.. وحدهم تطحنهم أيديولوجياتنا «العفنة» وتناقضاتنا، وأمراضنا النفسية، وتطاردهم كوابيس برامج الفضائيات التى لا تجد لها جمهورًا سوى بالفضائح والابتذال.
حلم أطفالنا الوحيد- وحلمى أيضًا- أن نصحو مجددًا على أجمل ما فينا.. دون أن يسقط منا أحد.. دون أن تحترق بناياتنا.. وقلوبنا.. وذاكرتنا.. مصر التى أعرفها أكبر بكثير من ربيع فقد جنينه وأكبر من كل التواريخ.. والفصول .. رحمة الله على من حلموا لها بأيام أجمل.. ورحمة الله لنا تهدينا إلى طريق سواء.