رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرصيـف القـارى لشـرق المتوسط..وحتمية ترسيم حدوده البحرية 3-3


تطرقنا فى المقالين إلى تفاصيل مهمة..كان آخرها أن  لبنان تستعد لطرح أول مزايدة عـالمية للتنقيب عـن الغاز الطبيعى أمام سواحلها ، غـير أن سوريا غارقـة فى الأحداث التى تمر بها ، وللتدليل على سوءات هـذا السباق الجارى عـلى هـذا النحـو ، فإننا نضع الإتفاقية التى تم توقيعها بين كل من مصر وقبرص عام 2003 على أساس خط المنتصف بينهما لتحديد المناطق الإقتصادية الحصرية لكل منهما فى أعالى البحر المتوسط وفقا لقانون البحار موضع التطبيق ، فبالرغم من أن هذه الإتفاقية تقضى بعـدم ترسيم الحدود البحرية بين أحد طرفى الإتفاقية مع طرف ثالث إلاٌ بعـد الرجـوع للطرف الآخـر ، إلاٌ أن قبرص قامت بترسيم حدودها مع إسرائيل دون الرجـوع إلى مصـر ، كما أن تركيا قامت عام 2008 بالإعـتـراض عـلى بـدء تفعـيـل الإتفاق الثنائى بين مصر وقبرص عـلى أساس أن قبرص التركية (غـير المعـترف بها ) لم تقم بترسيم حدودها البحرية بعـد ، كما تتهم قبرص تركيا بالتنقيب غـيـر الشرعى فى المنطقة الإقتصادية الخالصة لها ، وهكذا ظهـرت مصر وكأنها لم تستـفـيـد من دروس وعـبـر الماضى ، ولم تأبـه بدراسة وتحليل حقائق الواقع لإستشراف المستقبل فيما يختص بمسألة الحدود مع إسرائيل ، إذ إكتفت مصـر بإيـداع نقاط الأساس لحدودها البحرية فى الأمم المتحدة لضمان سيادتها وحفظ حقوقها فى ثرواتها الطبيعـية ، بدلا من أن تقوم بترسيم حدودها البحرية مع الوحدات السياسية المتاخمة لها فى نطاق مجالها المباشر ، خاصة مع

 

إسرائيل التى تجيد المراوغة إلى حد تحريف الكلم عـن مواضعه ، وفى إعـتقادى أنه يتعـين تشكيل فريق عـمل يضم أعلى مستـويـات الخبـرة المصرية لدراسة وتحديد جميع الجوانب الأمنية والفنية والسياسية والعـسكرية تمهيـدا لترسيم الحدود البحرية المصريـة مع جميع الدول المتشاطئة معها على سواحل البحر المتوسط والتى تتداخل مع منطقـتها الإقتصادية الخالصة .

 

هـذه هى أبعـاد السباق المحموم الذى يـدور الآن والذى سيصيـغ جـوهـر تفاعلات العـلاقات القـادمة بين الدول المتشاطئة على ساحلى البحر المتوسط الشرقى والشمالى الشرقى ، فهل ندرك نحن المصريـون هذه الأبعاد أم سنظل نبنى آمالنا على المقدمات ، ونعـتمـد فى إستخلاص النتائج على حسن النوايا فيما يختص بمسألة الحدود خاصة مع إسرائيل ، وهـل نـدرك طبيعـة وأهـداف فرض سياسة الأمر الواقع التى تمارسها إسرائيل وتشكل خطرا داهما وتهديدا مباشرا للأمن القـومى المصرى ؟ ، إذ ستظل إسرائيل تعـمل جاهدة عـلى إضعاف مصـر إلى الحد الذى يتسق مع موروثاتها التاريخية والدينية والعـقائدية ، تلك الموروثات التى تحكمها الـقـوة لصيانة وجودها وإستمرار بقائها ، أم سيـظـل أمن مـصـر مرهـونا بـتحـقـيـق هـذا الإدراك ؟ .

 

فـإن أدركنا أننا وحدنا المسؤولون عـن تأمين بـلـدنا ، وإن عـليـنا وحـدنا أيضا صيانة سيادتـه وسلامة أراضـيـه فى هـذه الـفـتـرة الحرجة من تاريخنا ، فعـليـنـا أولا نـبـذ الـخـلافـات والإنقسامات ، وإحـلال الـعـقـل محـل الإنـفـعال فى مسألة تحديد الحدود البحرية مع الغير إلى حد الوصول بها إلى ساحات القضاء ، و أن نعـمل ثـانـيـا عـلى إحـلال الـتـفـكـيــر بـدلا من الإنـدفاع والتأثـيـم والتخـويـن فى مسألة رد حقوق الغير ، وعـلـيـنا ثالـثـا أن نعـلـم أن الـتغـيـيـر الـذى يمكن إحـداثـه على مـهــل ويـبـنى عـلى الـتـخـطـيـط ، خـيـر من الـتغـيـيـر الـذى يعـتـمـد عـلى الإنـدفـاع والعـشـوائـيـة ، وعلينا رابعا وهو الأهم أن ندرك قيمة مصرنا الغالية التى كرمها الله سبحان وتعالى فى جميع كتبه ورسالاته السماوية ، وأن ندرك خامسا أن التنمية الشاملة لهذا البلد الأمين لن تأتى تلقائيا ، ولن تأتى بمساعـدات الآخريـن ، لكنها تأتى فقط بتنمية وتعظيم وتعبئة وحشد قدراتها الشاملة بجهود أبنائها الذاتية ، ولن يأتى ذلك إلا بالتحكم فى الزيادة السكانية غير المسيطر عليها ، وتعظيم قيمة العمل وتعظيم الإنتاج إلى أقصى حد ممكن ، وإصلاح البعـد السلوكى لجموع الشعب المصرى ، وإستعادة البعـد القيمى إلى ما كان عليه .

 

إذ يغالبنى الظن ( وليس كل الظن إثم ) فى أن أسوأ ما فى الأمر كله هى تلك النخب السياسية والحزبية والنيابية التى أفرزتها الثورة عامة ـ إلاٌ فيما نـدر ـ أولئك الذين لا يمتلكون رصيدا شعـبيا يؤهلهم للقيام بالدور الذى يتطلعـون إليه ، فعـملـوا على تغـييب هذا الإدراك عـن جموع الشعـب تحقيقا لمصالحهم الآنية والضيقة ، أما النخبة الإعلامية فكانت أشد تأثيرا فى تكريس غـياب هذا الإدراك ، إذ يمكن ملاحظة أنه بالرغـم من التزايد الملحوظ فى أدوات الإعلام ( صحف ـ قنوات فضائية ـ أدوات التواصل الإجتماعى ...إلخ ) إلى الحد الذى تفاءل معـه الجميع لتحقيق التنوع والجودة فى المواد الإعـلاميـة ، إلاٌ أن هـذا التزايد أدى إلى زيادة التنافس السلبى بين هـذه الأدوات سعـيا وراء تحقيق السبق الإعـلامى حتى ولو كان ذلك عـلى حساب المصداقية أو المصلحة العليا للدولة ، فتعـددت المفاهـيم المغـلوطة ، وتنوعـت الأراء المنحرفـة وعـملت على توجيه الرأى العام وفقا لهذه المفاهيم وتلك الآراء ، وعـملـت أيضا عـلى إغـراق مصـر فى مستنقع الماضى ، بـدلا من نشر روح التفاؤل والثقة والـتـطـلع إلى الـمـسـتـقـبـل ، وطرح الأفكار والرؤى التى تتسق مع بناء دولة عـصـرية قـويـة تستطيع أن تجابـه ما يحـيـق بها من أخطار ،

 

وتستطيع أن تحقق توازنها الإستراتيجى لردع كل من تسول له نفسه للإضرار بمصلحة مصـر العـليا .هـذا هو التصور الذى أطرحه لدراسة وتحليل مسرح وأبعاد الصراع القادم أو الرصيف القارى وترسيم الحدود البحرية مع الجميع سواء مع الدول المتشاطئة على الساحل الشرق للبحر المتوسط ، أو تلك المتشاطئة على سواح البحر الأحمر ، وأدعو وأرجو الله سبحانه وتعالى أن أكون قد وفقت فى توضيحه والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل .