رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العالم بين كان 2016 وأصبح 2017

جريدة الدستور

مع كل عام ميلادي جديد اعتاد الكثيرون حول العالم الاحتفال والابتهاج واستحضار حالة من الأمل متمنين أن يحمل لهم العام الجديد ما هو أجمل.

ووقعت في 2016، العديد من الأحداث الكبيرة التي زلزلت أمن العالم بأسره في مختلف المجالات؛ لكننا هنا بصدد تناول أبرزها على الصعيد السياسي، وما يمكن أن يسفر عنه رحيل بعضها إلى 2017.

البداية مصر :
مع كل ما تمر به المنطقة من اضطرابات، وما تواجهه مصر من تحديديات وتهديدات منها ما هو أمني ومنها ما هو اقتصادي وعسكري؛ غير أن استمرار تسليح الجيش المصري والحفاظ على صلابته بجانب المؤسسة الشرطية يعد مكسبًا كبيرًا يحق للنظام المصري أن يفخر به، وعلى المصريين أن يبذلوا قصارى جهدهم للحفاظ عليه.

لكن المصريين وإن اعتزوا وامتنوا للسلطة الحالية الحفاظ على هذا المكتسب الكبير في ظل الأحداث التي تمر به دول الجوار ومخططات التقسيم الكبرى التي تدور عجلاتها مسرعة، إلا أنه لن يستمر طويلًا مع تنامي الأزمة الاقتصادية، والفشل في إدارة العديد من الملفات التي تهدد الأمن القومي المصري وخاصة ملف "سد النهضة"، و"حلايب وشلاتين" و"النوبة" و"داعش سيناء" و"السياحة" و"الاستثمار" و"الدولار".

وتتعرض مصر لضغوط كبيرة من جميع أصدقائها وحلفائها، ورغم مساعيها الدائمة للحفاظ على توازن علاقاتها مع كل الأطراف الدولية حتى المتنافرة منها؛ غير أنه في الأخير أسفر عن توتر بينها وبين أقوى حلفائها العرب وهو السعودية.

كما أن الروس لا زالوا مستمرين في عملية المماطلة في عودة السياحة الروسية إلى مصر، وتنفيذ الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية الموقعة بينهما، ويرجع هذا للتقارب الروسي التركي مؤخرًا، وكذلك الرغبة الروسية في الوقوف على حقيقة التوجه المصري، هل هو إلى روسيا أقرب أم سيظل إلى الولايات المتحدة وتوجهاتها أقرب؟

وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي تتنامى في مصر نظرًا لعودة العمالة من ليبيا والسعودية وانخفاض تحويلات المصريين بالخارج لما يقرب من 12%، وإيرادات قناة السويس، فضلا عن انهيار قطاع السياحة نظرًا للحالة الأمنية التي كان أسوأها تفجير الكنيسة البطرسية الملحقة بالكاتدرائية القبطية بالعباسية في 11 ديسمبر 2016، وقبلها انفجار طائرة مصر للطيران في مايو من نفس العام، والتي أظهرت التحقيقات تعرضها للتفجير، في إشارة إلى استهدافها في عملية إرهابية، وبين هذين الحدثين وقبلهما وبعدهما ما يجري من قتال في شمال سيناء، وما يتعرض له الجنود المصريين من جرائم قتل من تظيم داعش الإرهابي خاصة في العريش والشيخ زويد ورفح وقرى المهدية والتومة وجبل الحلال.

مع كل هذه المشكلات، وضعف الدور المصري في إفريقيا اللهم إلا ليبيا والصحراء المغربية، يستحيل أن تتمكن مصر طوال الوقت من الاختيار، وتنفيذ ما تراه صوابًا خاصة في الملفات الدولية والإقليمية، الأمر الذي سيجعلها دائما عرضة لضغوط قد تودي لحصارها اقتصاديًا ولو بشكل غير معلن، عن طريق رفض الجميع التعجيل بالاستثمار بها، ومد جسور التعاون الاقتصادي معها، وعلى رأس هؤلاء أمريكا وروسيا والصين والسعودية.

الخلافات المصرية السعودية :
لا شك أن التوتر الواقع بين مصر والمملكة العربية السعودية كان مفاجأة للجميع، فلطالما كانت السعودية سواء في عهد الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز آل سعود، رحمه الله، أو العاهل السعودي الحالي الملك سلمان.

وإذا كان الجانب المصري قد نفى على لسان الرئيس عبدالفتاح السيسي مرجع الغضبة السعودية هو الموقف المصري المخالف للرؤية السعودية لحل الأزمة السورية؛ غير أنه يبقى السبب الأهم، إضافة لرفض مصر دخولها بقوات برية في اليمن، وتواصلها مع الحوثيين.

وهذا الخلاف وإن كان تأثيره الأكبر على مصر، خاصة على الصعيد الاقتصادي حيث أوقفت السعودية مساعداتها البترولية وكذلك تنفيذ اتفاقياتها الاستثمارية في مصر لأجل غير مسمى؛ غير أن استمرار التنافر المصري السعودي سيضر بالطرف السعودي كثيرًا على المدى المتوسط والبعيد، لما تواجهه المملكة من حرب باتت معلنة من الطرف الإيراني، وإن موقف الحليف التركي لن يكون على مستوى ما تأمله السعودية، على غير ما يمكن أن تقدمه مصر للسعودية في هذا الشأن على كل المستويات خاصة التخطيطات الاستراتيجية والدعم الفني والعسكري.

ولذا فإن التقارب المصري السعودي وارد في 2017، وعلى مصر ألا تتجاهل عامل الوقت، فكل يوم يمر بعيدًا عن حلحلة الخلاف مع السعودية يضاعف من تأثير تركيا على المملكة وتوجهاتها، وربما يجعلها تغير من رؤاها الاستراتيجية المستقبلية.

استعادة حلب وضياع سوريا :
من أبرز الأحداث في 2016، تمكن النظام السوري وداعميه الإيرانيين والروس من استعادة حلب، في انتصار يعد الأكبر لدمشق على الفصائل المعارضة منذ اندلاع النزاع العام 2011.

لكن هذا لا يعني نهاية الحرب في سوريا، ولا حتى وقف مخطط تقسيم سوريا، فسوف تستمر الحرب الأهلية السورية، لتكُون السِّمة المُميّزة لِمنطَقة الشرق الأوسط خلال الربع الثالث من العَام 2017، لتربِط مَا بَين طُموحات تركيا الآخذة في الارتفاع والصراعات بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران بشأن موازين القوى في المنطقة، ولن تكتفي تركيا بالعمليات المحدودة التي تنفذها قوات "درع الفرات"؛ بل ستنزل بقوات أكبر في حلب، وتتمدد نحو مدينة الباب، لكبح جماح الاتحاد الديمقراطي الكردي، وستقنع الروس بذلك مقابل مساعدتهم في معركتهم الحتمية القادمة بإدلب، حيث يهدد بقاء إدلب في يد جبهة النصرة قواعد روسيا العسكرية في اللاذيقية وطرطوس.

وفي الشمال السوري، ستستمر «داعش» فِي فُقدان الأراضي، وستستفِيد «قوات سوريا الديمقراطية» (ذات الغالبية التركية)، والقوات الموالية، وبعض فصائل المعارضة الأخرى مِن هذا التراجع.

وستبقى تركيا في حالة تأهّب لمُراقبة تحركات «قوات سوريا الديمقراطية» على حدودها، وستعمَل مِن خلال وكلائها من المعارضين على الحد من التوسع الإقليمي لـ«وحدات حِماية الشعب» الكردية، وتقليل نفوذها في حلب.

وستحاول الولايات المتحدة الحصول على المزيد من الدعم من حلفائها السنة في التحالف الدولي، بما في ذلك تركيا والسعودية والإمارات وقطر والأردن؛ لتعزيز الحملة الجوية ضد «داعش» في سوريا، وتدريب المعارضة، وربما مشاركة بعض القوات الخاصة على الأرض.

ويمكن القول أن تركيا هنا تنوب عن السعودية وأمريكا فضلا عن مصالحها، لضمان الوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف، ومن شأن هذا الواقع أن يقسم سوريا ويجعلها تحت الانتداب الدولي، فمنطقة في الشمال لتركيا والأكراد، ومنطقة في الغرب لروسيا، وفي الجنوب للنظام، وفي الشرق منطقة عازلة تنتظر انتهاء حرب الموصل لتبدأ حرب الرقة مع داعش.

وستكتفي إيران بالمندوب الروسي عنها، لكنها ستجتهد في تغيير ديموغرافيا حلب، وصبغها بالصبغة الشيعية مثلما هو مخططها بالموصل، والمدن السنية الكبيرة .

انقلاب تركيا :
في 15 يوليو 2016، تفاجأ العالم بخبر عاجل طارئ قرأته مذيعة شقراء على قناة تي آر تي التركية يفيد بنجاح محاولة انقلاب على النظام الحاكم بتركيا، فتصاعدت صيحات بعض المحللين والإعلاميين والسياسيين في دول كثيرة حول العالم وخاصة مصر، نظرا للخصومة الشديدة بين السلطة وأردوغان.

لكن بعد ساعات قليلة من إعلان الخبر، عاودت المذيعة ذاتها الظهور لتعلن فشل المحاولة بعد أن نجحت القوات الموالية للحكومة في استعادة السيطرة على الوضع بالمحطة التلفزيونية.

الأنظار وقتها كانت شاخصة تنتظر ظهور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ليطل في سابقة من نوعها عبر أحد تطبيقات التواصل الخاصة بشركة أبل وهو فايس تايم، اتهم من خلاله ما سمّاه بالكيان الموازي (جماعة الخدمة بقيادة زعيمها رجل الدين فتح الله غولن) بالوقوف وراء محاولة الانقلاب، ودعا الشعب التركي إلى هبة حاشدة في الشوارع والميادين للاعتراض على ما حدث.

واستطاع أردوغان توظيف ما حدث لصالحه، وقام بالتخلص من مسؤولين كبار بالجيش، وفي العديد من القطاعات بزعم تورطهم في أحداث الانقلاب.

ولم يتأخر أردوغان، وقاد تركيا للتدخل في سوريا والعراق على نحو غير مسبوق، وسعى لوقف التمدد الروسي بإيعاز أمريكي وبظاهر من التوافق ولكن باطن الأمر صب في مصلحة أردوغان أولا وأخيرًا، حيث دلل على زعامته وعلى ضرورة أن يكون في قلب المخططات التي تديرها القوى العظمى حتى يتم لهم ما أرادوا.

وستواصل تركيا في 2017 الحَدّ مِن التّوسع الكردي فِي شَمال سوريا، والتخفيف من التّهديد الإرهابي الذي تُشكّله «داعش»، والمزيد من التقارب مع روسيا وإعادة فتح المفاوضات بشأن تخفيضات الغاز الطبيعي وإحياء الحديث حول مشروع خط أنابيب «ترك ستريم» الذي سينقل الغاز من روسيا إلى تركيا عبر البحر الأسود.

كما ستسعى تركيا أردوغان إلى استخدام ورقة اللاجئين والرعب الأوروبي من استمرار تدفقهم إليها لكسب المزيد من المميزات فيما يتعلق بتحرير التأشيرات، والحد من التدخل الأوروبي بشَأن الإجراءات الأمنية الداخلية في تركيا.

أما على الصعيد الأمن الداخلي، فستظل تركيا تعاني من الضربات الإرهابية الموجعة، الأمر الذي سيؤثر على السياحة وعائداتها.

2017 سيأذن بخروج الدستور الجديد الذي طالما حلم به أردوغان، وتحويل النظام في تركيا إلى الرئاسي.

أنهار الدم :
سالت الدماء أنهرًا حول العالم، ليس في مناطق الصراع والاقتتال الأهلي كما هو الحال في سوريا واليمن وليبيا، وإنما في أوروبا وإفريقيا.

كانت أفظع سيلان هذه الدماء خارج دائرة القتل الدائرة في آسيا، ما وقع في بروكسل في شهر مارس، حيث قتل 34 شخصاً، وأصيب 135 آخرون في تفجيرين وقعا في مطار بروكسل، صباح يوم دامٍ وآخرين استهدفا محطتين للمترو في العاصمة البلجيكية. وقد تبنى تنظيم "داعش" الهجمات.

وبعد أقل من ساعة، هزّ انفجار جديد محطة قطارات قرب مبنى للاتحاد الأوروبي في العاصمة البلجيكية لدى وصول القطار إلى المحطة أثناء ساعة الذروة الصباحية، ما أسفر عن مقتل أشخاص عدة.
كما وقع تفجير رابع في محطة مالبيك أو محطة شومان المجاورة، حيث مقرات الاتحاد الأوروبي، أسفر عن مقتل 15 شخصاً وإصابة 40 آخرين.

ثم هجوم نيس الفرنسية، فقد وقع ما لا يقل عن 84 قتيلاً ناهيك عن أكثر من 100 جريح، إثر اندفاع شاحنة صوب جمع من الناس كانوا محتشدين لمشاهدة الألعاب النارية بمناسبة احتفالات العيد الوطني، فدهستهم على امتداد كيلومترين، وقد بينت التحقيقات أن منفذ الهجوم من أصل تونسي يدعى محمد لحويج بوهلال، في الـ 31 من العمر مقيم في نيس.

مثلها ما جرى في برلين يوم 23 ديسمبر من نفس العام، حيث قتل في عملية دهس التونسي أنيس العامري، 12 وأصاب أكثر من 50 قبل أن يتم اغتياله في ميلانو.

انفجارات أخرى هزت العالم أكثرها في تركيا والعراق ومصر، ثم في نيجيريا والكاميرون، ومن المتوقع استمرار هذه الانفجارات خاصة مع تضييق الخناق على داعش، ورغبته مد عملياته الانتقامية خارج نطاق سيطرته في إفريقيا وآسيا.

فوز ترامب وحرب الفضاء :
أحد أهم أحداث 2016، كان مفاجأة فوز دونالد ترمب، بانتخابات الرئاسة الأمريكية.
وقد نجح مرشح الحزب الجمهوري، دونالد ترمب، في الولوج إلى البيت الأبيض، ليصبح بذلك الرئيس الـ45 للولايات المتحدة الأمريكية، بعد تفوقه على منافسته الديمقراطية، هيلاري كلينتون، عقب السباق الطويل والمضني نحو البيت الأبيض.

ويتأهب ترمب لتغيير وجه السياسة الأمريكية خاصة الخارجية بالمزيد من التقارب مع روسيا، ومراجعة الاتفاق النووي مع إيران، واستمرار التضييق على الأسد ونظامه حتى يقتنع بضرورة التغيير، وأن يكون هناك مجلس حكم انتقالي، ما يبقي أمريكا قريبة من حلفائها في الخليج، وفي نفس الوقت لا تعادي روسيا خاصة بعد ما تحققه على الأرض برضى أمريكي خالص، ولو بالصمت.

لكن سيكون للرئيس الجديد خطة ربما يعتمد فيها على توريط روسيا وتركيا وإيران في مناطق الصراع الملتهبة كسوريا والعراق واليمن، ومن ثم استنفاذ طاقتهم وتوريطهم في حروب لا تنتهي، في الوقت الذي ستصاعف أمريكا من تطوير غزوها للفضاء، ومنظومة أسلحتها السرية خاصة تلك المتعلقة بالليزر السائل عالي الطاقة (HELLADS)، ويتضمن المشروع إنشاء جهاز صغير لإنتاج الليزر يمكن تركيبه على متن طائرة من دون طيار أو طائرة مقاتلة.

نهاية تشنغن :
بعد انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، ثمة توقعات بفوز زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبين في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة، الأمر الذي من شأنه إلى تنظيم استفتاء على خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، على غرار ما جرى في بريطانيا.

ومن شأن هذا وحال انفصال فرنسا هي الأخرى، إذا أوروبا تتجه إلى إنهاء العمل باتفاقية شنغن، أي أن نقاط التفتيش الحدودية داخل أوروبا ستعود إلى سابق عهدها، خاصة مع تزايد وتيرة العمليات الإرهابية في كبريات الدول الأوروبية.

إيران والخليج :
رغم النجاحات العسكرية لإيران وتمددها في كثير من العواصم العربية، غير أن ركودًا اقتصاديًا كبيرًا بانتظارها في 2017، وثمة قلاقل داخلية ستجري خاصة مع توقعات برحيل المرشد الأعلى علي خامنئي.
ومع المزيد من الانفتاح الاقتصادي، فإنّ الصراع بين قادة إيران سيتكثف. وسيسعى الحرس الثوري لحماية مَصالحه التجارية، وتوجيه سياسة خارجية أكثر عدوانية في المنطقة ضد خصومه من السنة في دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية.

وعلى الصعيد الخليجي، سيحاول السعوديون الحد تدريجيا من نفوذ المؤسسة الدينية من أجل خفض الضغوط الاجتماعية، ولكنها ستكون حريصة في ذلك بسبب حاجتها إلى دعم هذه المؤسسة في مواجهة تزايد النشاط الجهادي الإرهابي.

وستواصل الرياض دعم حملة البحرين في مواجهة المعارضة الشيعية، التي بدأت خلال احتجاجات عام 2011. كما ستستمر حرب اليمن حتى مع قرب التوصل إلى اتفاق بين الأطراف المتنازعة.

الصين تأتي من بعيد :
دولة تطعم ربع سكان العالم تقريبًا كان من المستحيل تخيل أنها قادرة على مواكبة دول العالم الأول، وخاصة تلك التي تتحكم في مصائر حكومات ورؤساء دول في قارات الدنيا المأهولة الست.

لكن الصين فعلتها، وبخطوات مفاجئة، وعقب انتصارها على الفاشية والاحتلال الياباني في الحرب العالمية الثانية، واستطاعت بقيادة زعمائها الأفذاذ توحيد كامل التراب الصيني، وإن بقي موقف تايوان مؤجلًا لكنه تحت السيطرة، رغم الممارسات الأمريكية الخبيثة.

جاءت الصين من بعيد، ووضعت لها قدمًا على درج قمة العالم، سواء على الصعيد الاقتصادي أو التكنولوجي أو العسكري، وتمكنت من مزاحمة كبريات دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، سواء في مد جسور التعاون مع دول العالم وتبادل الخبرات في شتى المجالات، أو في صناعة القرار الأممي وحل المشكلات العالمية، أو في النفوذ العسكري وهذا ما ظهر مؤخرًا من خلال المساعي الصينية غزو الفضاء وبناء قواعد عسكرية خارج أراضيها وخاصة في إفريقيا وآسيا الوسطى.

فبعد احتفال الصين بمرور 70 عاما على الحرب العالمية الثانية العام الماضي، والعرض العسكري الرهيب الذي نظمته لهذا الاحتفال، بات واضحًا أن مرحلة الرئيس "دينج شياو بينج" انتهت، وهي المرحلة التي تبنى فيها سياسات اقتصاد السوق، وكانت له نبوءة أن الصين بحاجة إلى 50 عامًا كي تصل إلى مرحلة السيطرة السياسية والاقتصادية.

ففي الثامن من مارس للعام 2016، ألمحت الصين إلى عزمها على إقامة المزيد من القواعد بعد مركز الخدمات اللوجستية في جيبوتي الذي تصفه الدولة الإفريقية بأنه أول منشأة عسكرية صينية في الخارج، والذي ترفض الصين وصفه بالقاعدة العسكرية.

ووفقا لدورية "ستراتفور" لتحليل المعلومات، فقد قالت في سبتمبر الماضي، أن لدى بكين نية لإقامة عدة مواقع عسكرية جديدة على الحدود الأفغانية والطاجيكية، وتضاف هذه المواقع إلى أخرى بنيت في وقت سابق من نفس العام.

وبحسب الدورية فإن الصين أوجدت في أغسطس من العام 2015 آلية تنسيق رباعي في المنطقة تضم إلى جانبها، باكستان وأفغانستان وطاجيكستان.

وتستهدف الصين مراقبة الأنشطة الإرهابية في المنطقة وتعزيز التعاون الاستخباري، حيث تشكل المجموعات المسلحة من قومية الإيغور تهديدًا لمصالحها في إقليم متاخم لآسيا الوسطى، وتبدي بكين تحمسا من أجل سحق هذه المجموعات. كما تسعى لدعم حضورها العسكري عبر إجراء تدريبات عسكرية مشتركة مع دول آسيا الوسطى مثلما هو حالها مع قيرغيزستان.

وإذا كان هذا ما يجري على الأرض، فإنه وعلى التوازي تسعى الصين لغزو الفضاء بقوة، حيث عرضت في أغسطس الماضي، أول صور لمسبار تعتزم إرساله إلى كوكب المريخ في منتصف 2020، بهدف استكشاف سطح الكوكب لمدة ثلاثة أشهر، وذلك في إطار برنامج الفضاء الصيني الطموح.

وهذا ما كشفه "كتاب الأنشطة الفضائية للصين عام 2016" الصادر عن مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني في 27 من شهر ديسمبر الجاري.

من هنا يمكننا القول أن التحرك الصيني نحو القمة السياسية والاقتصادية من شأنه إعاقة الحليف الروسي، فمصير النفوذ الروسي على الصعيد الدولي بات يصطدم بصخرة التقدم المذهل للصين في كل المجالات.

لكن معلوم أيضا للصين كما لغيرها أن القوة العسكرية وحدها لن تحقق لها هدف الوصول إلى هذه القمة، وأن سبيل الصين لتحقيق هذا الحلم، هو بناء شخصيتها الدبلوماسية المستقلة وتحديد أهدافها الاستراتيجية بعيدًا عن مخططات الحليف الروسي، وهذا ما ستعلن عنه السنوات القليلة، وهى تبنى قواعد للنفوذ السياسى والدبلوماسى فى أنحاء شتى من العالم، وهو العمل الذى لم يتسم بعد بالسرعة أو الضخامة التى تتسم بهما عمليات بناء القوة العسكرية الصينية.

آسيا الوسطى :
آسيا الوسطى من أهم المناطق الاستراتيجية في العالم، ولا يخفى على أحد من الاستراتيجيين والمحللين ما لها من أهمية كبرى في حسابات المصالح الخاصة بالقوى الكبرى في العالم، وينسحب ذلك على روسيا العائدة بقوة لموقع القوة العظمى، وعلى الصين، وهما دولتان تبحثان عن حالة استقرار لهذه المنطقة، وعلى الولايات المتحدة، كما ينسحب على الاتحاد الأوروبي، وهذه الدول تريد السيطرة على آسيا الوسطى تحت أي عنوان، حتى إن أدى ذلك إلى نزاعات وحروب.

تقع آسيا الوسطى في موقع القلب مما أسماه عالم الجغرافيا السياسية البريطاني (ماكيندر) بجزيرة العالم التي تتيح لمن يسيطر عليها السيطرة على العالم، وهي على اتصال بما يطلق عليها في أدبيات السياسة الدولية قارة أوراسيا.

ونظرًا لما تملكه هذه المنطقة من ثروات طبيعية، وموقع جغرافي مميز، فقد صارت مفتاحاً هاماً، وموطئ قدم استراتيجي لعدد من القوى الدولية والإقليمية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لاسيما أن عدداً من الدول المتاخمة للمنطقة تمثّل خصوماً أو منافسين لواشنطن، يتعيّن، وفقاً لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي أصدرتها الولايات المتحدة عام 1992، القضاء عليها، أو على الأقل إضعافها حتى لا تمثّل تحدياً للهيمنة والسياسة الأمريكية، وفي مقدمتها إيران، والصين، وروسيا ذاتها، ومن ثم فإن محاولة الولايات المتحدة التغلغل فيها يمثّل عاملاً هاماً في إضعاف الدول المناوئة، ومحاولة اختراقها جغرافياً، وسياسياً من وجهة النظر الأمريكية.

مع تسارع وتيرة الصراع السياسي على النفوذ بمنطقة الشرق الأوسط بين روسيا وأمريكا ومن ورائهما تركيا، فمن المتوقع أن تزيد حدة الاستقطاب بين القوى سالفة الذكر ومعها الصين وإيران والاتحاد الأوروبي، وهذا ما سيجعل للمنطقة حضورًا كبيرًا في العام بل والأعوام المقبلة، خاصة مع استمرار الأزمة الأوكرانية.