رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإنسان وفضوله المعرفي

جريدة الدستور

منذ بضعة أيام تخيلت نفسى أننى عليم بكل شىء ، خبير بكل شىء ، فما من شيء يقع عليه نظرى، وما لا يقع أيضا، وما من شىء يصل إليه سمعى وحسى, وما لا يصل أيضا, إلا وهو في حيز معرفتى وعلمي وإدراكى .

وريثما أنا غارق فى هذا العالم الذى تخيلته والذى أنا مالك فيه العلم الكامل و المعرفة التامة شعرت بأنه عالم رتيب كئيب، غير جدير بالاستمرار ، وجدتها حياة لا تطاق لما فيها من ملل وتعاسة بقدرٍ يتناسب مع ما فيها من علم ومعرفة.

ففى يوم من الأسام التى تخيلتُ فيها أننى [عليم خبير] كنت جالسًا علي كرسىٍّ أداعبه ويداعبنى , فعزمت أن أفتح كتابًا من قائمة الكتب المتراصة علي رفوف مكتبتى ثم ما لبثت أن أدركت بأننى أعرف كل ما فيه تمام المعرفة ، فما من خط خطه الكاتب، وما من سطر سطره المؤلف، وما من كلمة رسمها صاحب الكتاب إلا هو تحت إحاطة علمى ومعرفتى ؛ فعدت أدراجى ثانية، وكيف لي أن أطالع كتاباً وأنا أعلم بكل ما فيه من الغلاف إلى الغلاف !

بعد قليل قمت لأفتح التلفاز لأشاهد بعض القنوات أو أطالع بعض الأخبار والأحداث؛ فما إن وقفت على قناة حتى انتقلت إلى أخرى بشكل عابس ، إذ أننى أعرف كل ما تعرضه القنوات من أخبار ومشاهد ومعارف، سواءً الإخبارية منها أو الوثائقية أو الثقافية أو الفنية، إذن فماذا يحدث لك عندما تعرض عليك معرفة تلم بها تمام الإلمام أو علم تعلمه تمام العلم غير الملل والضجر!

قمتُ لأقطع هذا الملل والضجر بحديثٍ مع صاحب أو بمناقشة مع زميل ، فهاتفت صديقا لى لنتحدث سويا في شأن من شئون الحياة، فشرع يتحدث ويتحدث، حتى لقد هممت بأن أغلق الهاتف في وجهه من شدة ما أنا فيه من ضجر وسأم. فما نطق بكلمة إلا وأنا علي دراية بها، وما أخبرني بأمر إلا وأنا خبير بمكانه، عليم بزمانه، محيط بأشخاصه.

فكرتُ! لمَ أشعر بكل هذا الملل, ولمَ ينتابني كل هذا الضجر, ولمَ تحيطني كل هذه الرتابة بالرغم من أن لدي العلم كل العلم, والمعرفة كل المعرفة؟ بل لِمَ أسأل هذا السؤال أصلا إن كان عندي الجواب ؟ . إنها _حقا _ حياة لا تطاق .

إن الإنسان هو صانع علامات الاستفهام ومبتكرها , هو الكائن الباحث؛ الباحث عن كل شىء، الباحث عن الحقيقة، الباحث عن المعرفة، الباحث عن السعادة ، الباحث عن المعايير ، الباحث عن الحق, الباحث عن الخير, الباحث عن الجمال, الباحث عن كل ما لا يعرفه ويجهله. إنه الكائن الفيلسوف , والفلسفة قرينة الدهشة, فما كان للدهشة أن تنفصل عن الجهل وقلة المعرفة بحال من الأحوال, فمتى عدم الإنسان البحث والتفكير فيما يجهله عدم المعنى لوجوده ، وانفصل عن غايته المنوط بها.

إن معنى الوجود الإنسانى لا ينفصل عن معني جهله ، نعم جهله, فالإنسان مغرم بما يجهله, ولو علمه لمله, والإنسان موجود لأنه عازم علي مواصلة السير في طريق معرفته التي تلقى منها البذور الأولى فى البداية من الله حينما علمه الأسماء، فلم يقف آدم (الإنسان ) عند هذا الحد من العلم والمعرفة، بل قاده فضوله للعلم، وشغفه بالمعرفة إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو معرفة ماهية شجرة الخلد التي أغراه بها إبليس .

لقد أدرك إبليس فضول آدم وشغفه بالمعرفة شغفا بالغا ؛ فلعب على هذا الوتر المغرى البالغ الإغراء بالنسبة لآدم ؛ فقال له "هل أدلك؟", وكأنه يقول له "هل تريد أن تعرف؟".

ولعل آدم ظن بالتعرف علي ماهية "شجرة الخلد" هذه سيبلغ الكمال المعرفى, لذا هرول إليها راغبا في بلوغ الكمال الذي فاته, ناسيا أنه لن يبلغ سقف الحقيقة المطلقة, وأن كمال العلم والمعرفة الأوحد ليس لأحد إلا لله العليم الخبير الحكيم, ومن ثم كانت الخطيئة التى وقع فيها.

أفبعد كل هذا نلوم علي الإنسان شغفه بالمعرفة , وفضوله لمعرفة ما يجهله, وتطلعه حتي لما هو فوق معرفته وإدراكه؟ ، إننا لن نلوم آدم (الإنسان) أبدا على ما جنى عليه فضول المعرفة ؛ فتلك كينونة الإنسان التي ميزه الله بها عن باقي الكيانات الأخري من حيوان ونبات وجماد , هي الكينونة العقلية المفطورة علي البحث والمعرفة.