رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بورسعيد... ستون عامًا لم تهزم قط


فى صباح يوم 5 نوفمبر عام 1956.. كانت أسراب من الطائرات الإنجليزية فوق مدينة بورسعيد.

سرعان ما تم إنزال موجة من جنود وضباط المظلات فوق منطقة الجميل غرب المدينة..

اشتبكت معها سرية من الحرس الوطنى والمقاومة الشعبية.. لم يستطع مظلى واحد الوصول إلى الأرض حيا..لقد تم إبادة موجة المظلات بالكامل..

تم الاستيلاء على أسلحتهم والمظلات المعلقة بهم..

لكن الطائرات الإنجليزية لم تتوقف..

فقد تم مهاجمة خنادق المقاومة بقوة وكثافة من النيران..

تم إنزال الموجة الثانية من المظلات.. كانت أكثر عددا.. ووصلت إلى الأرض.. فتحت نيران الرشاشات.. وألقت القنابل نحو خنادق المقاومة..

كانت المعركة غير متكافئة.. سقط عدد كبير من الشهداء والمصابين.. تم أسر «محمد مهران» قائد سرية الحرس الوطنى وهو مصاب بعدة طلقات من الرصاص.. تم نقله بطائرة هيلوكوبتر إلى جزيرة قبرص.. حيث كانت تحت الاحتلال الإنجليزى..

فى العاشرة صباحا.. كنت صبيا عمرى لا يتجاوز التاسعة.. وقفت فى شارع «كسرى» وهو أطول شوارع المدينة..

رايت حى «المناخ» وهو يحترق بالكامل.. كانت النيران الحمراء تلتهم منازل الحى.. ويعلو فى السماء الدخان الأسود..

كانت صرخات النساء والأطفال عالية.. تدفق من نجوا من أبناء حى المناخ إلى داخل حى العرب..

كان حرق حى المناخ يأتى انتقاما من المقاومة التى قاتلت ببسالة، حيث تم القضاء نهائيا على الموجة الأولى من المظلات..

كانت القوات الإنجليزية تعتقد بما لديها من معلومات أن قوات المظلات ستجد ترحيبا من أبناء المدينة.. لكن لم تتوقع أن يكون الترحيب والاستقبال برصاص المقاومة، قامت قاذفات الطائرات بقذف حى المناخ بقنابل «النابالم».. كنا أول مرة نسمع عن هذا النوع من القنابل الحارقة..

فى منتصف نهار اليوم نفسه قامت قطع الأسطول الإنجليزى أمام شواطئ بورسعيد.. بقذف مركز بطول شاطئ المدينة..

تم تدمير كل الكبائن والشاليهات الصيفية وجميع المبانى بطول الشاطئ اشتعلت النيران وأصبح البحر كله يختفى خلف النيران والدخان الأسود..

فى الغروب كل هذا فى اليوم نفسه، أى مساء 5 نوفمبر 1956.. قامت الطائرات الإنجليزية بضرب مستودعات البترول الموجودة جنوب المدينة..

ارتفعت النيران حتى حجبت النجوم والقمر..

أصبحت بورسعيد مدينة تحت حصار النيران الحمراء والدخان الأسود من جميع الاتجاهات الأربعة..

فى المساء تدفقت أعداد هائلة من النساء والأطفال فى محاولة للخروج من المدينة الملتهبة والمشتعلة فيها النيران للوصول إلى بحيرة المنزلة حتى يستطيعوا ركوب مراكب الصيد الموجودة فى ذلك الوقت..

لكن أعداد كبيرة من هذه المراكب لم تتحمل وجود أعداد أكبر من الأطفال والنساء بداخلها، بعضها انقلب وغرق.. استشهد عدد كبير من النساء والأطفال.

حاولت القوات الإنجليزية النزول بشاطئ المدينة، حيث تقدمت الدبابات والمدرعات وسيارات الجيب..

كان حى العرب قد تحول إلى قوة ضاربة من المقاومة الشعبية.. كانت أسلحتهم.. بنادق روسية نصف آلية.. وبنادق «ليانفيلد».. وهى بنادق عتيقة طلقاتها فردية.. كان سلاح القوات الإنجليزية من الرشاشات الحديثة..

لم تستطع دبابات الإنجليز اختراق حى العرب..

فى اليوم التالى تقدمت ثلاث دبابات من أول شارع الروضة «شهداء القنال حاليا»من جهة قسم شرطة العرب.. كانت الدبابات الإنجليزية تحمل أعلاما روسية وفوق كل برج دبابة وقف جندى يقول بلهجة عربية «إننا روس.. إننا روس» ..

تم خداع المقاومة وسارت خلف الدبابات.. كنا صبية صغارا نقف أمام هذه الدبابات ونعتقد أنها نجدة جاءت تحمينا من العدوان الإنجليزى..

وصلت الدبابات إلى شارع 100 واتجهت شمالا إلى شارع محمد على، وهناك أطلقت مدافعها الرشاشة على رجال المقاومة، سقط عدد كبير من الشهداء والمصابين..

أصبحت بورسعيد تحت الاحتلال الإنجليزى.. تحولت المقاومة العلانية إلى مقاومة سرية..

كان هناك ضابط المخابرات الإنجليزية «وليامز».. يعرف كل شوارع المدينة وحواريها.. بل وأسماء بعض رجالها.. كان هذا الضابط موجودا بالمدينة عندما كان الوطن كله تحت الاحتلال الإنجليزى، أصبح هذا الضابط يمثل خطورة شديدة على المقاومة الشعبية..

هنا برز صبى صغير لم يتجاوز عمره السابعة عشرة من عمره «السيد عسران»..

فكر «عسران» طويلا كيف يمكن التخلص من هذا الضابط؟

كانت الفكرة غريبة لا يمكن لعقل صبى أن يصل إليها.. لكن صبية المدينة الباسلة كانت تفوق الخيال!!

سار «عسران» على جانب الطريق بشارع النهضة ووصل إلى سيارة الضابط، حيث كان يقف بسيارته أمام قسم شرطة الشرق القديم.. كان يحمل فى يده ورقة.. أى شكوى..

وفى اليد الأخرى «سندوتش» يأكل منه مد «عسران» يده بالورقة إلى الضابط الإنجليزى.. ثم ألقى باليد الأخرى السنتدوتش داخل السيارة.. كانت المفاجأة مذهلة.. حيث وضع عسران قنبلة يدوية داخل السندوتش.. فر عسران وبسرعة من جانب السيارة،حيث انفجرت القنبلة فى وجه الضابط الإنجليزى وسائقه..

قتل «ويليامز» وأصبحت المقاومة الشعبية فى أمان بعد أن زال خطره..

بعد سنوات طويلة توفى «عسران» وهو يرقد فى فراش الموت حيث كنت بجانبه!!

سارت سيارة أجرة يقودها «على زانجير » وبها «حندالله» ورفاقه.. اتجهت السيارة إلى الفريسة.. كان هناك الضابط الإنجليزى «مورهاوس».. تم خطفه واتجهت السيارة بسرعة إلى منزل بشارع عرابى وتم وضعه فى صندوق مع تكميم صوته حتى لا يستغيث..

لكن القوات الإنجليزية سرعان ما حاصرت المكان والمنطقة.. وأصبح من المستحيل تقديم أى ماء أو غذاء له.. مات الضابط الإنجليزى بسبب حصار الإنجليز له..

بعد ذلك قدمت القوات الإنجليزية كل ما طلبته الحكومة المصرية من شروط مقابل تسليم جثته!!

هذه هى ثور المقاومة خلال 47 يوماً من الاحتلال الإنجليزى لبورسعيد.. كان آخر شهداء المدينة «حسن حمود» الذى قاد المظاهرة من حى العرب واستشهد برصاص الإنجليز وأصبحت الفانلة الحمراء من لون دمه هى علم بورسعيد....الآن!!