رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحرية الفكرية عند سلامة موسى

جريدة الدستور


قام سقراط أثناء وقوفه أمام مجلس محاكمته الذي اتهمه بالكفر والمروق عن الدين وتضليل الشباب؛ ووقف مدافعا عن نفسه ومؤسسا لمبدأ الحرية الفكرية, قائلا :"ليس علي الأرض إنسانا له الحق في أن يملي على الآخر ما يجب أن يؤمن به أو يحرمه في حق التفكير كما يهوى".

بهذه العبارة يمكن أن نلخص ما يريد أن يقوله سلامة موسى في كل أسطر كتابه "الحرية الفكرية" علي الخصوص، وفي جل كتاباته علي وجه العموم.

إن قضية الحرية الفكرية قضية هامة وحيوية، ترمي بمراميها نحو الإبداع والتقدم، إذ أنه لا إبداع بدون حرية فكرية، ولا تقدم بدون ابتكار وتجديد.

إنما يأتي الخلق والاكتشاف حينما يعيش الذهن في حرية، ويحيا العقل في انعتاق ، فالعقل الذي تصفده الأغلال، وتكبحه الأطر والتقيدات لا يمكن له أن ينتج إنتاجا جديدا، أو يكتشف اكتشافا حديثا.

وسلامة موسى في كتابه "الحرية الفكرية" يسرد لنا قصة معاناة الحرية الفكرية ومأساويتها في التاريخ الإنساني الشرقي والغربي مع عقد مقارنة بينهما، في عرض سريع بسيط ومنظم، ذاكرا أمثلة ونماذج شهدت عنتا ولاقت اضطهادا أحيانا وتغريبا ونفيا أحيانا، وتعذيبا وقتلا أحيانا أخرى لأشخاص لم تكن جريمتهم سوى أنهم أبدوا عما يفكرون وأفصحوا عما يعتقدون .

يبدأ الكتاب بالتاريخ الإغريقي حيث الفيلسوف "اناجزاجوراس" الذي كان يعلم تلاميذه بأن الشمس ليست مركبة يركبها الآلهة كما تقول الديانة, بل هي قطعة من نار.

فتألب عليه رجال الدين وحبسوه في أثينا ثم نفوه فمات في أسيا الصغري، ويمر بنا الكتاب علي ثقافة القرون الوسطي والثقافة الإسلامية مارا بعصري النهضة والتنوير, مقدما نماذج مأساوية وأخري هزلية عن مواقف عانت فيها الحرية الفكرية معاناة شديدة، وعانا فيها الإنسان المفكر صاحب الفكرة الشاذة عن فكر العامة والخارجة عن سياق القطيع أيما معاناة.

حتي يصل بنا إلي عصرنا الحالي فيري أن الحريات بدأت تتنفس الصعداء شيئا فشيئا، إلا أنها مازالت في مجمعاتنا الشرقية لم تتخلص كل التخلص بعدُ من أغلالها.

ويرجع سلامة موسى الاضطهاد الفكري لعدة أسباب:

أولها: التعصب الأعمي للفكرة الواحدة التي يعتقد صاحبها بأنها الفكرة التي لا تأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.

أن الناس مطبوعون علي الكسل والاستنامة، ولذلك تري أنه إذا ابتدع أحد فكرة جديدة خارج حدود الفكر المألوف فإنهم ينكرون عليه مما جاء به لأن هذه الفكرة تحثهم علي بذل الجهد في تأمل والتفكير والعامة لا يروق لهم ذلك.

ثانيها: خوف السلطة المسيطرة، وذلك يبدو جليا في أعلى صوره عندما تتزاوج السياسة بالدين، فتتحد كلمتهما علي أن العامة يجب ألا يخرج واحد من منهم خارج مسيرة القطيع أو يشذ عن فكره عن فكر العامة، حتي يستطيع إحكام السيطرة عليهم فلا تفقد قوتها، وحتي لا تسبب الفكرة الشاذة والجديدة إثارة المجتمع.

ثالثا: المصلحة. فالغني يكره فكرة البولشفية لمصحة واضحة, والفقير يكره أي فكرة تدعو إلى سيطرة بعض القلة علي رأس المال وهكذا.

كما أن سلامة موسي في كتابه الحرية الدينية لم ينس دور التصور الخاطيء للدين في إضطهاد الفكر، بيد أن هذا لا يحدث عادة إلا عندما يتزاوج الدين بالسياسة، فيحدث أن يستخدم الدين لصالح مصالح السلطة، فالدين المسيحي _مثلا_ الذي تؤمن أوربا الان والذي يقول المؤمنون به بالتسامح والمحبة هو نفسه الدين الذي كان يأمر محاكم التفتيش بالصرامة والضرب بيد من حديد في العصور الوسطي علي من يخالف كلمتها، والإسلام الذي تسامح في وجود "المعري" هو نفسه الذي توسل به الفقهاء لقتل "السهروردي" و"الحلاج".

بيد أن سلامة موسي يري أن المشكلة لا تكمن في الدين نفسه، بل في توظيف الدين ضد الحريات وقمع الفكر وإلباسه ثوب غير ثوبه ضد كل ما هو مبدع وخلاق.

إننا الآن في أمس الحاجة من أي وقت آخر إلي تفعيل قيمة احترام الآخر_ وأقصد بالآخر هنا الفكرة المخالفة لقناعاتي وإن كنت أحيا معا أنا وصاحبها فوق جغرافية واحدة، حتي وإن كنت غير مقتنع برأيه أو بما جاء به، فما نراه الآن من صراعات هزلية وأخرى مخزية محزنة علي الساحات الإعلامية وغيرها؛ هي في أصلها صراعات فكرية، وسببها الجهل بثقافة احترام الآخر.

إن السعي نحو التقدم والرقي يحتم علينا تفعيل قيمة احترام الآخر, وإثراء العقول بفقه التعايش, وإرساء ثقافة الحوار.