رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

« جمال عبد الناصر».. الأسطورة التي قهرت الموت .. 46 عامًا ولا يزال الزعيم حيًا

جمال عبدالناصر
جمال عبدالناصر

« أكبرت يومك أن يكون رثاء.. الخالدون عهدتهم أحياء».. كثيرون من تعمر بسيرتهم الكتب، باعتبارهم جزءا من حركة التاريخ، لكن قليلين هم من يصنعون التاريخ، أو يمكن أن يطلق عليهم مجازًا بأنهم هم التاريخ نفسه، وبطل هذه السطور هو أحد هؤلاء القلائل.

المراوغة والمهادنة والتأييد والهجوم، صفات أربع تلخص مسيرة الإنسان في الحياة طبقا لمتطلبات المرحلة التي يحياها، لكنه كعادته تمرد، فحطم كل القيود، وكسر كل القواعد، فهو لم يكن يعرف سوى العطف على من مالت عليهم الدنيا بقسوتها، فاعتبروه هدية السماء لنصرتهم، والمواجهة والصدام مع أعوان الباطل، الذين حاولوا استمالته بشتى الطرق، لكنهم فشلوا، فشل وصفه بالذريع يعتبر شيئا قليلا، فأعلنوا أنه على خلاف كثيرين ممن هم على شاكلته، يمكن اعتباره " رجلا بلا خطيئة".

في أحد المنازل بحي باكوس بمحافظة الإسكندرية، وفي إحدى الليالي الشتوية، ذات البرد القارس، وتحديدًا في شهر يناير من عام 1918، الموافق لشهر القهر، شهر طوبة، رزق عبد الناصر أفندي حسين الموظف بمصلحة البريد، بابنه البكر "جمال" بعد مرور ما يقرب من العام على زواجه من السيدة "فهيمة".

قضى الصبي "جمال" شطرًا من حياته الأولى يتلقى تعليمه الأساسي في مسقط رأسه بمدينة الإسكندرية عروس البحر المتوسط، قبل أن يأذن له القدر بالرحيل إلي قاهرة المعز للالتحاق بالكلية الحربية، والتي كانت بداية لمراحل التحول الكبرى في حياته.

دارت الأيام دورتها وأصبح البكباشي جمال عبد الناصر قائدًا لتنظيم الضباط الأحرار، والذي تمكن لاحقًا من تغيير التاريخ في مصر، بنقلها من زمن الملكية إلى عصر الجمهورية، العهد الشاهد على أحداث جسام في تاريخ المحروسة السياسي.

شاب في منتصف الثلاثينات من عمره، يقود أحلام أمة بأكملها، ليتحول إلى رمز للعزة والكرامة والضمير الوطني، تمكن من صنع أحلام التغيير في المحيط العربي والإسلامي والأفريقي.

جمال عبد الناصر ظاهرة مازالت حية، رغم مرور 46 عامًا على رحيله ومواراته للثرى، يقف أمامها المؤرخون سواء كانوا من معارضيه أو مؤيديه، يتعاملون معه بمنطق أنه شخصية استثنائية غير قابلة للتكرار إلا فيما ندر وعلى أزمان متباعدة.

ثمانية عشر عامًا قضاها عبد الناصر حاكمًا فعليًا للدولة المصرية، شهدت خلاله العديد من الأحداث، التي يستحق كل حدث منها صفحات للوقوف أمامه، لكن أبرز ما يميز تلك الحقبة هو ملف العدالة الاجتماعية.

استطاع "عبد الناصر" أن يصيغ أحلام البسطاء والفقراء في حياة أدمية لواقع، الزعيم الذي كان يري أن الفقر المدقع في وسط الغني الفاحش جريمة لا تغتفر، تأتي لغة الأرقام لتثبت صدق ما انتهجه، بعدما وصل الحد الأدني في عهده إلى خمسة جنيهات شهريا، بما يعادل 2000 جنيه في زمننا الحالي، أي ما يكفي لشراء 34 كيلو لحمة شهريا.

ولم تكن العدالة الاجتماعية وحدها هي آخر ما انتهت إليه إنجازات الزعيم، فتأميم قناة السويس وبناء السد العالي، والنهضة الثقافية المتمثلة في ازدهار صناعة السينما والأدب علامات بارزة خلال الحقبة الناصرية.

وتبقى نكسة عام 1967، وتغول جهاز أمن الدولة والمخابرات في الحياة العامة، بمثابة الجرح الغائر، الذي يتعرض بسببهما الزعيم جمال عبد الناصر، إلى النهش والنبش والغمز في سيرته ومسيرته منذ رحيله وإلى الآن.

ومثلما كانت حياته حافلة بالعديد من الأحداث، فرحيله هو الآخر كان بمثابة الانقلاب، الذي جعل الجميع يكشف عن وجهه الآخر، فقد تعرض الزعيم جمال عبد الناصر لموجة عاتية من التشويه، بدأت من أولى القربي، تحت مباركة من قيادات الدولة المصرية الموجودة آنذاك.

البداية جاءت باستعانة الرئيس الراحل أنور السادات، بأبناء تيار الإسلام السياسي، والذين عمدوا بتصدير صورة عن الزعيم، بأنه كان عدوا لدودا لكل ما هو إسلامي.

الكاتب توفيق الحكيم سقط في الفخ بكتابه "عودة الوعي"، والذي حفل بالهجوم على سياسات ثورة يوليو ونقد "عبد الناصر"، بالرغم من المنزلة التي منحتها الثورة للحكيم، بعدما اعتبره جمال عبد الناصر بمثابة الأب الروحي لها، ومنحه قلادة الجمهورية.

لكن انقلاب "الحكيم" على شخص "عبد الناصر" لم يمر مرور الكرام، فقد أصدر الكاتب محمد عودة كتابه "الوعي المفقود"، مهاجما تحول الحكيم، قبل أن يتدخل الكاتب محمد حسنين هيكل، بقصف جبهة الحكيم، معتبرًا هجومه بمثابة الصعود إلى الهاوية.

لكن على النقيض من موقف الكاتب توفيق الحكيم، كان هناك موقف الشاعر عبد الرحمن الأبنودي أحد أكبر المعارضين للسياسيات الناصرية في حياة صاحبه، حتى زج به في السجن بتهمة الانتماء إلى تنظيم شيوعي، تبدل موقفه بعد رحيل "عبد الناصر" بصورة كبيرة، ليصبح من كبار العاشقين لشخصه ومسيرته، حتى رثاه بقصيدة صنفت بكونها من أروع ما كتب في نعي الزعيم الراحل.

وعلى نفس الوتيرة صار الشاعر الراحل أحمد فؤاد، رغم أنه من ضحايا الحقبة الناصرية، لكن غفر لعبد الناصر نكسة يونيو، وبات من كبار المدافعين عنه، بجانب قصيدة الشاعر العراقي محمد سعد الجواهري، والذي اعتبر "عبد الناصر" زعيم "عظيم المجد والأخطاء".