رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخلاف والاتفاق الأمريكى - الإيرانى فى المسألة السوريـة «1-2»


أربع مقالات تناولت تأثير ثورة 30 يونيو فى علاقات الفعل ورد الفعـل بين القوى العالمية والإقليمية الفاعلة فى منطقة الشرق الأوسط، ففى المقال الأول قمت بتأصيل مفاهيم مصطلحات الشرعـية والمشروعـية والثورة الشعـبيـة والانقلاب العـسكرى، لتحـديـد وتوصيف طبيعـة تفاعلات أحداثها وخلصت إلى أن العالم بأسره كان إزاء « ثورة شعبية متكاملة بيضاء» قدمت الجموع المصرية الحاشدة نموذجاً فـريـداً للتعـبئـة والحشد السلمى، وأدت تفاعلاتها إلى تغييـر نظام حكم بآخر فى سلمية تامة، وتناولت فى المقال الثانى تأثيـرها فى المشروع الأمريكى القائـم على تفكيك وتفتيت الدول العـربية المركزية إلى كنتونات صغيرة، وتوطيـن شعـوبها على أساس إثنى أو دينى أو طائفى أو مذهـبى لإعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط «الكبير»، وفى المقال الثالث تناولت ثأثيـرها فى تركيا، وذكرت أن ما صرح به القائـد السياسى التركى «نعم لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، ولا للمصالحة مع مصـر» يُعـبـر تعـبيراً دقيقاً عن عمق هذا التأثير فى المعادلة السياسية التـركية، حيث حالت الثورة المصرية دون تحقيق مشروع تركيا القومى فى المنطقة «إحياء دولة الخلافة الإسلامية تحت راية العثمانيين الجدد»، وإنتهى المقال بالعبارة التالية «لعـل أردوغان قـد أدرك الآن الفرق بين مفهوم ثورة 30 يونيو، وبين مفهوم الإنقلاب العسكرى الذى تعـرض له، وفى المقال الأخير تناولت تأثير هذه الثورة فى إسرائيل حيث خسرت أولاً الاتفاق طويل الأمد الذى عـقـده الرئيس المعـزولبينها وبين حماس، ولم تتمكن ثانياً وهو الأهم من إقامة الوطن البديل للفلسطينيين «غزة الكبرى» وتحقيق النقاء اليهودى فى إسرائيل، وبالتالى لن تتمكن من تحقيق هدف المرحلة الذى يكمن جوهره فى تبادل بعـض الأراضى بين كل من مصـر والأردن وإسرائيلوالفلسطينيين، وهو ما يُعـرف بالحل الإقليمى للصراع العـربى الإسرائيلى الممتـد، وكنت أعتزم تناول ثأثيـرها على إيران اليوم تناول، لكننى وجدت أنه من المناسب تناول عـرض نقاط الخلاف والاتفاق فى المنظورين الأمريكى والإيرانى لارتباطها ارتباطاً مباشراً بتأثير تفاعلات الثورة المصرية على إيران.

ولكى يكون لدينا نقطة إنطلاق سليمة لتناول هذا الموضوع، فإنه ينبغى أولاً تحليل محتوى المنظـور الجيوبوليتيكى الإيـرانى، حيث يشكل البعـد القيمى الإيرانى المساحة الأكبـر فيه، حيث يتمحور المحتوى الفكرى لهذا المنظور حول الحفاظ على الإمبراطوريـة الفارسية الساسانية التى كانت عاصمتها بغـداد، وقـد تحول هذا المحتوى ليكون إحياء الإمبراطورية الفارسية بعـد إضمحلالها بعـد الفتح الإسلامى، ولتحقيق ذلك سعى الفرس أولا إلى السيطرة على مراكز صناعة القرار فى الدولة الإسلامية الوليـدة، وتمكن «البـرامكة» من ذلك فى الدولة العـباسية، وكرسوا جهودهم لتحقيق ذلك.

ثانياً فى فـتـرة إيـران الشـاه، وعملوا على تـرسخه ثالثا بعـد الـثـورة الإسلامية، وأصبح محتوى المنظور هو «إحيـاء الإمبراطورية الفارسيـة الساسانية وعاصمتها بغـداد تحت الراية الشيعـية».

ويشير الواقع إلى أن العـلاقات الإيـرانـيـة العـربـيـة قـد تأثرت بقضية هـويـة الخـليـج إلى أن أصبحت ذات صيغ تصارعـية فى معظمها، ولا شك فى أن تمسك إيران بتسمية الذراع المائى الممتـد فى المحيط الهنـدى « بالخليج الفارسى» تحمل فى طياتها صراعاً سياسيا له أبعاده الإستراتيجية التى تتعلق بمفهوم الهيمنة على منطقة الخليج، ويُؤكد ذلك استمرار احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث التى تتحكم فى الخليج، وقيامها بتحديـد مياهها الإقلـيمـية لتغـطى مياه الخليج كله، وسعـيها الدؤوب إلى امتلاك قدرات عسكرية ذات إمكانات تـسـلـيحية هائلة بما فى ذلك الرادع الـنـووى، الأمر الذى يفـوق متطلباتها الدفاعية كثيراً، وهو ما يؤكد أن الغاية النهائية لإيران هى إحياء الإمبراطورية الفارسية الساسانية تحت الراية الشيعية، وهو ما يتسق جزئياً مع محتوى المنظور الأمريكى فيما يتعلق بإعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير بعـد تفكيك وتفتيت الدول العربية المركزية، وتوطيـن شعـوبها على أساس إثنى أو دينى أو طائفى أو مذهـبى، وترسيم الحدود النهائية بينها لتصحيح حدود سايكس بيكو، ثم تقسيم المنطقة العربية إلى مناطق نفوذ بين القوى الإقليمية غـير العـربيـة ( إيران تركيا»، ولذلك يُخطىء من يظن أنه كانت هناك قطيعة بين الولايات المتحدة وإيران، بل كان هناك تعاون كامل بين الجانبين الأمريكى والإيرانى كشفت عنه الوثائق السريـة التى أفرجت عنها وكالة المخابرات المركزية CIA مطلع عام 2015، حيث كشفـت عن المقابلات السرية التى تمت بين الخومينى وجورج بوش الأب عندما كان رئيساً للوكالة من ناحية، واللقاءات السرية التى تمت بين قـادة التيار الإسلامى الإيـرانى وإسرائيل فى لندن من ناحية أخرى لترتيب عـودة الخمينى إلى طهران، وترتيب إستقباله فى 1 فبراير1979بواسطة رجال الأعمال الإيرانيين اليهود بإعـتباره القائـد الحقيقى للثورة الشعبية التى إندلعت ضد شاه إيران «أقـرب حلفاء الولايات المتحدة » منتصف 1977.

وللتدليل على إستمرار التواصل الأمريكى الإيرانى فإنه يُمكن التذكير بالتصريـح الذى أدلى به بوش الإبن عـنـدما كان رئيـساً للولايات المتحـدة كرد فعـل لتوصيـة «لجنة بيكر هاملتون» التى تُعـد من أكبر الجهات المتخصصة فى دراسة الملف العراقى، حيث أوصت بضرورة الاستعانة بإيـران لإنقاذ الولايات المتحدة من مأزقها الخانق فى العـراق، حيث صرح بوش الابن أنـه لا يعـتـزم مهاجمة إيران قبل مغادرته البيت الأبيض، وقـد رد رفسنجانى على هذا التصريح بقوله « إن كانت الولايات المتحدة هى البلـد الأهم فى العالم، فإن إيران هى البلـد الأهم فى المنطقة، ومن المنطقى أن يسويا المشكلات العالقة بينهما»، وهو ما يبرر لنا لماذا سمحت الولايات المتحدة لإيران بأن تسيطر على النظام السورى، وتسيطر على لبنان «حزب الله»، وتسيطر على اليمن «الحوثيين»، وتسيطر على العراق من قبلسعياً وراء تشكيل ما يُسمى بالهلال الشيعى .

وهو ما سأتناوله تباعاً فى مقالات قادمة بإذن الله .