رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأمن المائى المصـرى والعـربى..قراءة تحليلية لزيارة نتنياهو الأفريقية «2»


فى الجزء الأول من مقالنا تحت العنوان نفسه كتبنا أن تركيا كشفت عن نواياها الحقيقية عـندما أعـلنت عن استعـدادها لمد خط أنابيب السلام لنقل المياه من تركيا إلى كل من السعـوديـة والإمارات، ليصل إلى الكويت عـبـر العراق لينتهى فى الشارقة بطول240 كم، وخط آخر إلى إسرائيل، وبيع المياه لهذه الدول بسعـر يصل إلى ثلث تكلفة تحلية مياه البحـر...

وهو النهج نفسه الذى انتهجته الولايات المتحدة وتوابعـها مع مصر، إذ يشير الأستاذ هيثم الكيلانى «العدد 17 من كراسات استراتيجية ـ المياه العربية والصراع الإقليمى ـ دراسة مستقبلية مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام» إلى أن الإدارة الأمريكية فى محاولة منها للرد على مشروع السد العالى فى مصر، قـد وضعت فى نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات دراسات اقترحت فيها على إثيوبيا إقامة 26 سـداً وخزانـاً مائياً على مجرى النيل الأزرق، من شأنها التأثيـر على تدفق المياه إلى مصـر، وأوحت إلى إسرائيل بإرسال وفـد على مستوى عال إلى إثيوبيا، فأرسلت وفـداً يضم 400 خبير فى شئون المياه فى 1990، ثم كلفت «مكتب الولايات المتحدة» لاستصلاح الأراضىUS Bureau Of Reclamation للقيام بمسح شامل للنيل الأزرق فى الفترة من 1956 ـ 1964، حيث اقترح المكتب 33 موقعاً لإنشاء سدود متنوعة، بعضها للرى وأخرى لتوليـد الكهرباء وسدود ثالثة متعـددة الأغراض، وكان أكبـرها هـو سـد الحدود Border Dam «حدود مع دولة السودان»، الذى تم تعديل اسمه إلى سـد الألـفيـةMillennium Dam ، وأطلق عليه سد النهضة الأثيوبى الكبيـر فى أبريل 2011، هكذا وجدت إثيوبيا نفسها تحت الحماية الأمريكية والرعاية الإسرائيلية، فقامت بتعـديـل أبعـاد السد وزادتـه طولاً وعرضاً وارتفاعاً، وبالرغم من ذلك فلن تزيـد قدراتـه على إنتاج الطاقة الكهرومائيـة عما كانت قبل التعـديل، وإنما سيؤدى فقط إلى زيادة السعة التخزينية للمياه، وهو الأمر الذى يكشف النوايا الحقيقية النوايا إثيوبيا، حيث تتمثل هذه النوايا فى حرمان مصـر من كامل حصتها المائية ليتم استكمالها بالثمن الذى تحدده إثيوبيا التى ربما تقوم باستخدام الفائض فى الزراعات الكثيفة على مساحات شاسعة بنظام الرى الدائم.

وأخيراً جاءت زيارة نتنياهو متزامنـة مع قـرب قيام إثيوبيا بعمليـة الملء الأول لخزان سـد النهضة، الأمر الذى يدلل على أن إسرائيل لم تتجاهـل يوماً ما تحـقيـق حلمها الدائم الذى يتمثل فى تخصيص حصة لها من مياه النيـل، وهو المشروع الذى طرحه «تيـودور هـرتـزل» مؤسس الحركة الصهيـونيـة على الحكومة البريطانية فى 1903وتم رفضه، فجاء نتنياهو ليُعـيـد صياغته من جديـد بمفردات صهيـونية، إذ يتمثل جوهـر الطرح الجديـد فى تأسيس بنك للمياه فى منطقة الشرق الأوسط، تشارك فيه إسرائيل بخبرتها العـلـميـة والتكنولوجية فى مقابل نقل حصة من مياه النيل إلى أراضى إسرائيل، وفى يقينى أن هناك العديد من التساؤلات تدور فى ذهن القارئ الآن، لعل أبرزها التساؤلات التالية: هل تأتى هذه الزيارة التى وصفها رئيس الوزراء الإسرائيلى بأنها الأهم والأغلى، التى أعادت إسرائيل إلى أفريقيا، وأعادت أفريقيا إلى إسرائيل، بمنإى أو بمعـزل عن المشهـد المصىـرى العام بزخم متغيراته التى تتسم بسرعة وكثافة وتتابع وتراكم تفاعلاتها؟ وهل يمكن أن تأتى هذه الزيارة تلقائياً فى توقيت متزامن مع قرار إيطاليا بوقف إمداد مصر بقطع غيار حربية مهمة بسبب قضية ريجينى؟ وهل يُمكن أن تتزامن هذه الزيارة مع عودة العلاقات الروسية التركية واستئناف السياحة الروسية إلى تركيا واستمرار حجبها عن مصر؟ وهل يمكن أن تأتى هذه الزيارة بمنأى أو بمعزل عن الهجمة الشرسة التى تتعرض لها مصر تحت دعوى انتهاكها لحقوق الإنسان؟ أم أن تأتى بمنأى أو معزل عن المطالبة اللحوحة بالمصالحة مع الذين لم تتلوث أياديهم بالدماء من الجماعة الإرهابية وإدماجهم فى المعادلة السياسية المصرية؟ أم أنها تأتى فقط لإنهاك واستنزاف القدرات المصرية الشاملة وإرباك القيادة المصرية للحيلولة دون تحقيق حلم القائـد السياسى لمشروعه القومى لتعود مصر لتكون أم الدنيا مرة ثانية؟ وما الأهداف الحقيقية لإسرائيل من هذه الزيارة؟

فى يقينى أن إسرائيل تسعى إلى إقـامة عـلاقـات تعـاونـيـة مع معـظم الـدول الأفريقية داخل وخارج إطارحوض نهـر النيل وتـوطـيـد العـلاقــة مع هذه الدول، من خلال معاونتها مادياً ومعنوياً وإمدادها بالخبرات العلمية والتكنولوجية الإسرائيلية خاصة فى المجالات الأمـنـيـة، والعـسكـريـة، والاقـتـصاديـة، والاجتماعية، بزعم المشاركة فى إحداث التنمية الشاملة فى الدول الأفريقية، حـتى تؤكـد للجميع أنـها قـفـزت إلى مصاف الـقوى العظمى والكـبـرى، بـعـد أن أدركت أن المدخل الطبيعى لإقامة وتعـزيـز العلاقات مع هذه الدول هو تغـليف هذه العلاقات بغطاء أمنى تنموى استراتيجى، فى مقابل ضمان تأييد معظم الدول الأفريقية الـ 54 لها فى المحافـل والمنظمات والمؤسسات الدوليـة، وأن تشكل هذه الدول أسواقاً طبيعية لجميع المنتجات الإسرائيلية خاصة تلك المطلوب تصريفها بما يدعم دخلها القومى الإجمالى، وأن تُشكل هذه الدول مجالاً واسعاً للاستثمارت الإسرائيلية بما يُمكَنها من الاستغلال الأمثل للمعادن الاستراتيجية التى لم تستغل حتى الآن، خاصة معادن الكوبـالت، والبلاتـينيـوم، والنـيـكل كـروم، والمنجنيـز وغيرها، حيث تنتج الكونغـو وحدها 56% وزامبيا 16% من الإنتاج العالمى من هذه المعادن، كما تعـتبر زامبيا أكبر دولة منتجة للنحاس فى العالم «الدول التى قام نتنياهو بزيارتها»، بينما تعـتبر بوتسوانا أكبر دولة فى العالم منتجة لخام الماس، وتأتى أنجولا كثانى أكبر دولة منتجة للبترول فى أفريقيا، إذ يبلغ الاحتياطى البترولى المؤكد فى القارة الأفريقية حوالى 80 مليار برميل حسب تقديرات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «أونكيتاد»، أما الهدف الحقيقى وهو الأهم فيكمن جوهرهفى الاستيلاء على حصة من مياه النيل أولاً، وإضعاف القدرة الشاملة لمصر ثانياً بحرمانها من كامل حصتها مما أنزله الله سبحانه سائغا.

 أستاذ العلوم السياسية ــ جامعة بورسعيد