رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة 30يونيو.. والمعادلتان الدولية والإقليمية «3»


استكمالًا للمقالين السابقين نؤكد أنه ينبغى ثانياً إدراك أن هدفها النهائى فى منطقة الشرق الأوسط يُعتبر هدفاً فرعياً من غايتها النهائية المطلوب تحقيقها على مستوى النسق الدولى، وتتمثل هذه الغاية فى «عدم زحزحة مركـز الهـيمنة Focus of Hegemony على العالم، وحتمية استقراره لديها إن رهـبـاً أو رغـبـاً»، خاصة بـعـد أن انـفـردت بـالـنـفـوذ على الساحـة الدولية وأن أحد الاشتراطات الرئيسية لإحتفاظها بمركز الهيمنة هو عـدم قيام قوة عالمية أو إقليمية قادرة على التحكم فى إقـليم حيوى مثل منطقة الشرق الأوسط لاعـتبارات استراتيجية عـديـدة، الأمر الذى فرض عليهـا اتخاذ بعض الترتيبات الأمنية فى المنطقة، بما يضمن لها الاحتفاظ بمركز الهيمنة على العالم، وانفرادها بالنفوذ على الساحة الدولية.

فقـد فرض عليها الموقف الاستراتيجى تقسيم غايتها النهائية فى النسق الدولى إلى عدة أهداف فرعية يتم تحقيقها فى منطقة الشرق الأوسط، فقد فرض عليها أولاً حـتمية تواجدها فى المنطقة التى تتميز بموقعها الجيوستراتيجى الفريـد والتى يُعـتبر قلب العالم القديم، والذى يضمن لها حرية التحرك عـبـر بحار ومحيطات وخلجان المنطقة «البحرين الأحمر والمتوسط، والمحيط الهندى والأطلنطى، والخليج العربى وخليج هـورمـز وعـدن وغـيـرها من المسطحات المائية المهمة»، ويضمن لها الوصول إلى جميع المناطق الإقليمية الأخرى فى العالم من خلال قواعدها البحرية أو التسهـيلات البحريـة ومراكز القيادة والسيطرةُ التى أنشأتها فى بعـض دول الشرق الأوسط ودول الخليج، أما الهدف الـثانى وهـو يترتب على الأول، وهو ضمان السيطرة على مصـادر المعـادن الاستراتيجـيـة فـى منطقة الشرق الأوسط وأفـريقـيـا، خاصة مصادر الطاقـة بما يضمن استمرار تدفق البترول العـربى إليها وإلى حلـفـائها فى الغـرب واليابان بالمعـدلات التى تضمن تحـقيـق الرفاهـيـة الصناعـية، فبالرغم من أنها تنتج 65 % من احتياجاتها من البترول، وبالرغم من اكتشافها أكبر خزان عملاق فى العالم حتى الآن فى أراضيها، إلاَ أنها لن تتخلى عن البئر الذى لا ينضب لاستنزافه واستنزاف فوائضه المالية المتراكمة لدى دول منطقة الخليج العـربى ذات الموقع المهيمن على الأذرع المائية الممتدة داخل المحيط الهندى، ويُسهل لها الوصول إلى مناطق ومصادر المعادن الإستراتيجية اللازمة لقاعدة التصنيع الثقيل للإنتاج الحربى، خاصة الكوبـالت والبلاتـينيـوم، والنـيـكل كـروم، والمنجنيـز وغيرها «على سبيل المثال تنتـج الكونغـو الديموقراطية وحدها 56% بينما تنتج زامبيا 16 % من الإنتاج العالمى من هذه المعادن، كما تعـتبـر زامبيا أكبر دولة منتجة للنحاس فى العالم».

أما الهدف الثالث وهو الأهم، حيث يُمثـل التهديـد الحقيقى للولايات المتحدة، فيتمثـل فى سعيها الدؤوب لاتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان عـدم قيـام قـوة عالمية تنازعها الهيمنة على الساحة الدولية، أو تقاسمها النفوذ وتشاركها فى قيادة تفاعلات العالم، أو تكـون قـادرة على التحـكم أو استقطاب دول فى منطقة مهمة مثل دول المنطقة العربية التى تعـتبـر المكون الرئيسى للنسق الإقليمى لمنطقة الشرق الأوسط، ويتمثل الهدف الرابع فى سعـيها الحثيث لضمان أمـن وسلامـة إسرائيـل التى ترتبط معها برباط إستراتيجى وثيق، والذى تطور كثيراً حتى أصبـح ارتباطاً عاطفياً وعـضوياً، إلى الحد الذى أعـلـن فيه أوبـامـا أنـه على استعـداد أن يضع إسرائيل تحـت المظـلة النووية الأمريكية لحمايتها من أى تهديد نووى إيرانى حتى يكتسب رضاها بعـد توقيع اتفاقية التسويةالتاريخية للقضية النووية الإيرانية. وقـد وضعـت الولايات المتحدة رؤية برجنسكى الإستراتيجية موضع التنفيذ لتحقيق أهدافها فى المنطقة، وتتلخص هذه الرؤية فى النص الذى صرح به فى أعقاب توقيع معاهدة السلام «أما وقـد انتهت الحرب بيـن مصر وإسرائيل، فإن الاستقرار قد يسود منطقة الشرق الأوسط، وهو ما لا ينبغى حدوثه، بل يتعين أن تسود المنطقة العـربية فوضى عارمة لا يدركها حكامها أو شعـوبها، حتى يتم تفتيت دولها إلى كيانات صغـيـرة، وتوطين شعـوبها على أساس تركيبة هذه الشعوب عـرقياً ودينياً وطائفياً، وترسيم الحدود النهائية بينها، وتصحيح حدود سايكس ـ بيكو، وهو الأمر الذى سيكلف الولايات المتحدة تكاليف باهظة، ولذلك يتعـين علينـا تعـظيم قدرات القوى غـيـر العـربية، وتقسيم المنطقة العربية إلى مناطق نفوذ، مقابل تحملها هذه التكاليف، وقد كشف برجينسكى عن هذه الرؤية عـنـدما أوشكت الحرب العـراقية الإيرانية أن تضع أوزارها، فقد صرح «بأن المعـضلة التى ستعانى منها الولايات المتحدة منذ الآن فصاعدا هى كيفية إشعال حرب خليجية جديدة على غرار الحرب العـراقية الإيرانية»، وهو ما يُبرر لنا اندلاع أزمة الخليج الثانية «اقتحام العراق للكويت»، فقامت بتعـبئة الرأى العام العالمى وحشدت تحالفاً دولياً لم تشهده البشرية من قبل، غـزت به العـراق واحتلته وتخلصت من جيشه الذى كان يُعـتبر أقوى جيش فى منطقة الخليج، ثم قسمته بين الأكراد والسنة والشيعة ليكون نموذجاً لما ستكون عليه الدول العربية المركزية بعد تفتيتها، ويبرر لنا أيضا لماذا توصلت إلى التسوية التاريخية مع إيران، حيث جعـلتها الرابح الوحيد من هذه الاتفاقية، ويبرر أيضاً سعى أوباما الدؤوبلإحداث التوافق بين تركيا وإسرائيل وتطبيع العلاقات التى لم تنقطع يوماً ما بينهما، ويبرر أيضاً سعى الولايات المتحدة الحثيث لإغراق شعـوب المنطقة العـربية فى ثورات فوضوية دون أن يكون لها قيادات تقود أحداثها وتسيطر على تفاعلاتها، ودون أن يكون لها رؤية واضحة لمشروع قومى تلتف حوله الشعـوب، وجرَت هذه الشعـوب إلى منزلقات التقاتل والتناحر والتباغض لنشر الفوضى الخلاقة التى أعلنتها كونداليزا رايس فى 2004، حتى تتفرغ الولايات المتحدة للقوى العالمية الصاعدة الساعية لمشاركتها النفوذ على الساحة الدولية، خاصة الصيـن وطـن الكتل البشرية الضخمة ذات القوميات المتعـددة التى انصهرت فى بوتقة الحضارة العريقة، صاحبة الخصائص الاجتماعـية والهـويـة الـثـقـافـيـة الـفـريـدة، وروسيا سليلة القياصرة وريثة القوة السوفييتية وصاحبة أكـبـر قـوة عـسكريـة فى الـعالـم بعـدها، أقرب القوى لتحقيق توازن المكانة.