رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة 30.. والمعادلتان الدولية والإقليمية « 1»


احتفلت مصر منذ أيام بثورة 30 يونيه، وهى الثورة التى فرضت نفسها كأكثـر المتغـيرات أهمية على الساحتين الدولية والإقليمية، والتى تميزت أحداثها بسرعة وكثافة تراكم تفاعلاتها، فأثرت تأثيراً بالغاً على المعادلتين الدولية والإقليمية، إذ يمكن تناول هذه الأحداث فى إيجاز شديد فى استيلاء الجماعة الإرهابية على حكم مصر بمساعدة الولايات المتحدة، بعـد أن قـدمت نفسها للإدارة الأمريكية بأنها البديل المناسب لنظام حكم الرئيس مبارك وأبدى التنظيم الدولى للجماعة الإرهابية استعـداده الكامل، ورغـبته الصادقة فى صيانة مصالحها فى المنطقة خاصة فيما يتعلق بأمن إسرائيل، فتظاهرت الولايات المتحدة بأنها وجدت فعلاً البديل المناسب فى هذا التنظيم الذى يعتنق الإسلام الوسطى، فعـززت وصوله إلى حكم مصـر ليتسق مع نظام الحكم فى تركيا، فعملت على التعجيل لإسقاط نظام مبارك، وتحقيق هدفها الرئيسى فى المنطقة وفقاً لمنظورها الجيوبوليتيكى فى إعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير، الذى يضيق ويتسع وفقاً لهذا المنظور، وهو الهدف القائم على تفكيك وتقسيم وتفتيت الدول العربية المركزية إلى كنتونات ضعيفة، وتوطيـن شعـوبها على أساس عـرقى أو دينى أو طائفى أو مذهبى، وترسيم الحدود النهائية بينها بما يتمشى مع تركيبة الشعـوب، وتصحيح حدود سايكس بيكو، إذ تمثل مصر فى المنظور الجيوبوليتيكى الأمريكى موقع القلب لمنطقة الشرق الأوسط، وبالتالى فإن من يسيطر على مصر فإنه لن يلبث طويلاً حتى يسيطر على الشرق الأوسط بأسره.

وبمجرد وصول هذا التنظيم إلى حكم مصر، مارس كل صنوف الاستقـواء والاستعـلاء والاستعـداء ضد جموع الأمة المصرية طوال عام الظلام الذى حكموا فيه، فأصدر رئيسهم ما يُسمى بـ «الإعلان الدستورى المكمل» الذى حصـن مجلس الشورى واللجنة التأسيسية الثانية، وجميع قرارات وقوانين ومراسيم الرئيس الإخوانى السابقة منها واللاحقة، وما ظهر منها وما بطن، والتى وصفها «عصام العـريان» بأن التاريخ سيـذكـر أن الله قـد أنقـذ بها الثورة، وأحبط بها خطط الكارهـين الذين يتآمرون على مصـر من الداخل والخارج، ووصفها الرئيس الإخوانى نفسه بأنها تأتى بوحى من الله، فهـو يستخير الله قبل اتخاذها ولذلك لا يجوز الطعـن عليها، هكذا اتخذوا من الدين ذريعة، ومن القرآن حجة، ومن السنة جسراً لتثبيت حكمهم، وظنوا أن الدنيا قد خلت لهم، وأن نواميس الحياة لا تسرى عـليهم، ونسوا ما ذكروا به، وفرحوا بما أوتوا، فحكموا عـلى معارضيهم بالكفـر والإلحاد، ونسوا أن احترام رأى جموع الأمة واجب، والتمسك بالرأى عـناد، والرجوع إلى الحق فضيلة، والإصرار على الخطأ نقيصة، والتعايش مع الجموع ضرورة.

وقد بدأت تفاعلات أحداث ثورة 30 يونيه قبل نحو شهـريـن تقريباً بحركة عـبقـريـة بالرغـم من بساطتها البالغة، عُـرفت بـ «حركة تمرد»، وتمكنت هذه الحركة من تجميع أكثـر من 22 مليون وثيقة لسحب الثقة من الرئيس الإخوانى، وحددت يوم 30 يونيه بـدايـة لفعاليات الثورة، فارتبك النظام وسادت الفوضى ربوع الدولة نتيجة لعـدم رضا وغضب جموع الأمة من ممارساتـه، فتعرض الأمن القومى للتهديد الداخلى الذى يُعتبر أكثر ضرراً من التهديد الخارجى، حيث يؤدى إلى إسقاط الدولة، فقامت المؤسسة العسكرية المنوط بها حماية وصيانة الأمن القومى بإعـطاء مهلة للجميع لمدة سبعة أيام ومدتها بيومين آخرين، حتى يتمكن النظام القائم من إحداث التوافق المجتمعى اللازم لحماية وصيانة الأمن القومى من المخاطر التى تحيق بالبلاد، وأعلنت هذه المؤسسة الوطنية أنها خارج دائرة الحكم والسياسة، لكن مسئولياتها التاريخية والقيمية والوطنية تملى عليها حماية الأمن القومى للدولة، وعندما فشل النظام فى تحقيق هذا التوافق اللازم لصيانة الأمن القومى أصـدر الفريق أول عـبد الفتاح السيسى وزيـر الدفاع آنذاك بيانا أعـلـن فيه عـزل الرئيس الإخوانى، وتسليم السلطة إلى رئيس المحكمة الدستورية العـليـا كرئيس مؤقت للبلاد، الأمر الذى أثار جدلاً واسعاً صاحبه ردود أفعال متباينة عربياً وإقليمياً ودولياً، وعلى المستويين الشعـبى والرسمى، وتمحور جوهـر هذا التباين حول ما إذا كانت هذه الأحداث ثورة شعـبية أم انقـلاباً عـسكرياً على الشرعـية، خاصة مع الولايات المتحدة والتحالف غير المعلن الذى تقوده فى المنطقة.وترتيباً على ذلك، ولكى يكون لدينا نقطة انطلاق سليمة لتناول تأثيـر هذه الثورة على المعادلتين الدولية الإقليمية، فإنه يتعين أولاً حسم هذا التبايـن والاختلاف من خلال توضيح مفاهيم بعـض المصطلحات بما يتسق مع أدبيات العلوم السياسية «الشرعية والمشروعية الثورة الشعـبية الانقلاب عـسكرى»، ويمكن الاسترشاد بما تناوله عـلماء الاجتماع السياسى لتوضيح هذه المفاهيم، إذ يُمكن تأصيل مفهوم مصطلح الشرعـية من منظور «لوك» الذى عرَف مفهوم الشرعية بأنه خضوع الحكام لإرادة الشعـوب، باعـتبارها أساس السيادة ومصدر السلطات، أما «جان جاك روسو» فـذهب إلى أن الإنسان قد اتفق مع غـيره على حتمية إقامة نظام اجتماعى يقوم أساسا على التوافق المجتمعى، يصون الحقـوق والمصالح، وهو ما يعنى أن الإنسان قـد تنازل عـن بعـض حرياتـه لسلطـة ينشئها هو فى المجتمع، فى مقابـل أن يتمتع بحريات أخرى «الحريات المدنية»، على أن تقوم هذه السلطة على حماية الحريات بتوفـيـر الأمن وحفظ النظام فى المجتمع، ويعـنى ذلك أن الشعـب هو المنشىء لهذه السلطة باعـتباره أساس السيادة ومصدر السلطات، وأن هذه السيادة كلٌ لا يتجزأ ولا تغـتـصب، ويمكن أن يعـهد بجزء منها إلى سلطة تبرم معه عـقـداً اجتماعياً لإدارة شئون الأمة، فالشرعـية إذن تنصرف إلى خضوع الحاكم والمحكوم لجميع الأسس والمبادئ والقواعـد والأعراف والقوانين التى يتم تطبيقها على الجميع دون انتقائية لتحقيق مبدأ العـدل والمساواة وفقاً لهذا العـقـد، وعلى الحاكم أن يدرك أنه اسـتـمـد سلطانـه من إرادة جموع الأمة، وأن العـقـد الاجتماعى الذى أبـرمه معهم يستند إلى إرادتهم، فإذا ما أخل الحاكم بما جاء فى العـقـد جاز لهم فسخه، وهو ما حدث فى ثورة 30 يونيه، أما المشروعـية فتنصرف عـلى الممارسات والقرارات التى يتخذها الحاكم وفقاً للقاعـدة القانونية، وتقاس المشروعـية بمدى رضاء جموع الأمة عـن هذه الممارسات وتلك القرارات، وهو ما لم ترض به جموع الأمة المصرية. وهو ما سأتناوله فى الأسبوع المقبل بإذن الله.

 أستاذ العلوم السياسية جامعة بورسعيد