رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إلى محافظ الإسكندرية..ووزير الآثار


كلما كتبت عن فساد قطاع الآثار أو السلوكيات المشينة لبعض الأثريين والعوار الموجود فى قانون الآثار..كلما وصلتنى ردود أفعال غاضبة، مما أكتبه..وكأننى أكتب عن شىء جديد لا يعرفه القارئ !!..ولمثل هؤلاء أقول..إذا كانت الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية والأمنية التى مرت بها البلاد خلال العقود الماضية ومازالت تمر بها حتى الآن قد سمحت لكم بهذا الفساد فإننى أؤكد لكم أن لحظة الحساب عن جرائم سرقة وتهريب وتزييف الآثار باتت وشيكة..وأؤكد أيضاً أننى على قدر عشقى لتراب هذا البلد بقدر غضبى وحقدى على لصوص التاريخ الذين ينخرون فى عظام مصر أرضاً وبشراً وموروثاً أثرياً لا يمكن تعويضه بكنوز الدنيا كلها.

أكتب اليوم متألماً بسبب ما وصلنى عن ارتكاب «مقاول» إسكندرانى لكارثة جديدة بحق معلم أثرى فريد ..حيث قام عدو الحضارة الإنسانية ومن صمت على ُجرمه من مسئولى المحافظة وموظفى الآثار بالاعتداء على أرض مملوءة بكنوز أثرية دون أن يجد من يصده أو يعترض طريقه..هذا العمل الإجرامى وتلك الكارثة المتكررة ضد تراثنا وآثارنا تكشفها مستندات والتى تفضح سطوة هذا المقال وما يشاع عن علاقاته بكبار المسئولين وخراب ذمم موظفى الدولة الذين سمحوا له بانتهاك حرمة التاريخ وأعطوه الضوء الأخضر بالبناء على أنقاض «مسرح العبد» فى منطقة «الشاطبى» على البحر مباشرة.

صحيح أن المقاول اشترى أرض المتحف من مالكها الأصلى..لكن حسب قانون الآثار 117 لسنة 1983 وملحقاته..تنص المادة 43 على «المعاقبة بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات ولا تزيد على سبع سنوات..وبغرامة لا تقل عن ثلاثة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسين ألف جنيه» لــ:أولاً: كل من سرق أثراً أو جزءاً من أثر مملوك للدولة أو قام بإخفائه أو اشترك فى شىء من ذلك..ويحكم فى هذه الحالة بمصادرة الأثر والأجهزة والأدوات والسيارات المستخدمة فى الجريمة لصالح الهيئة..ثانياً: كل من هدم أو أتلف عمداً أثراً أو مبنى تاريخياً أو شوهه أو غَيَّر معالمه أو فصل جزءاً منه أو اشترك فى ذلك»..ثالثاً: كل من أجرى أعمال الحفر الأثرى دون ترخيص أو اشترك فى ذلك وتكون العقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسين ألف جنيه إذا كان الفاعل من العاملين بالدولة المشرفين أو المشتغلين بالآثار أو موظفى أو عمال بعثات الحفائر أو من المقاولين المتعاقدين مع الهيئة أو من عمالهم»..وهناك أيضاً فقرة من مادة فى هذا القانون تؤكد أن «هيئة الآثار المصرية هى المختصة بالإشراف على جميع ما يتعلق بشئون الآثار فى متاحفها ومخازنها وفى المواقع والمناطق الأثرية والتاريخية ولو عثر عليها بطريق المصادفة»..إذن بموجب هذا القانون يمكننا مناشدة الجهات المعنية فتح تحقيق مع جميع الأطراف التى اشتركت فى هذا الجرم لمحاسبة المدان منهم..وكذلك الوصول إلى نتائج إيجابية لصالح الآثار التى تم إخفاؤها عمداً.

يقول شهود عيان على تلك الجريمة إن «هذا الموقع الأثرى الفريد ربما يكون خاصاً –وهذا احتمال كبير-بالإسكندر الأكبر الذى كان ومازال وسيظل الشغل الشاغل لعلماء الآثار فى العالم..هؤلاء الذين يبحثون عن أى أثر يخص القائد الإغريقى فى أى مكان داخل مصر أو خارجها»..فكتب التاريخ توضح أنه دخل مصر قائداً فاتحاً بعد الاحتلال الفارسى البغيض الذى نكل بأهلالمحروسة وأذاقهم كل أصناف العذاب..الأمر الذى جعل المصريين يستقبلون القائد الجديد –رغم إنه محتل أيضاً-بالمودة والترحيب..بعد ذلك قرر الإسكندر الأكبر أن يبنى مدينة مهمة تحمل اسمه فى العالم «الهلينستى».. وهو مصطلح ابتدعه المؤرخ درويسين..للإشارة إلى حقبة من التاريخ القديم زخرت فيها الثقافة اليونانية بأسمى مظاهر الحضارة بعد وفاة هذا القائد عام 323 ق.م ..وظلت 200عام فى اليونان.. و300عام فى المنطقة العربية.. ويستخدم هذا المصطلح أيضاً للتفريق بينه وبين الفترة الهلينية الخاصة باليونانيين القدماء أصحاب الفكر والعلوم والفلسفة الإغريقية فى عصر الإمبراطورية الأثينية..فكلف الإسكندر الأكبر مهندسه المعمارى-اليونانى دقلديونس بإنشاء عروس البحر المتوسط «الإسكندرية»‏..ومن المرجح أن يكون-بحسب المؤرخين والأثريين-قد أوصى بدفن جثمانه فيها.

شهود العيان قالوا أنه منذ فترة قريبه تم اكتشاف آثار مهمة جداً فى هذا الموقع ترجع إلى العصر «الهلينستى»..وهذا ما أكد عليه أهل الاختصاص بجامعة الإسكندرية أيضاً عندما قالوا إنه موقع خارج نطاق التصنيف الأثرى المتعارف عليه..وشددوا على أن به قطعاً أثرية قديمة جداً ونادرة ولا تقدر بثمن..وأضافوا أن «هذا المكان لو تم تحويله إلى متحف متميز يطل على البحر بعد أن ُيوضع فيه الآثار المكتشفة من باطنه..لأصبح معلماً سياحياً يقصده السائح الأجنبى لأهميته العلمية والأثرية..وسيدر مئات الملايين من الجنيهات لصالح المحافظة ووزارة الآثار دون مبالغة.

والشىء بالشىء يذكر..فقد نشرت «الدستور» فى 21-9-2010 تحقيقاً مطولاً عن هذه المقبرة شمل عدة آراء..منها رأى الأثرى علاء الشحات- مدير عام آثار الإسكندرية وغرب الدلتا.-قال فيه إن الإسكندرية قديما كانت رقعة واحدة «محصورة»، ولن تخرج عملية البحث عن محيط محدد..فإما أن يتم العثور على مقبرة الإسكندر الأكبر يوماً ما عن طريق الصدفة..وإما أن تكون قد دمرت أوردمت أو سرقت كما حدث قبل ذلك فى بعض المقابر الفرعونية كمقبرة خوفو..لافتاً إلى أن هذا الاحتمال وارد جداً..لذا لا نستبعد أن تكون الآثار التى أخفاها هذا المقاول أسفل برجه دليلاً على وجود تلك المقبرة..خصوصاً وأن هناك من اتفق مع «الشحات» فى الرأى وهو د. إبراهيم درويش -مدير متاحف الإسكندرية –عندما توقع ظهور مقبرة الإسكندر يوماً «ما» بالصدفة تحت أى عمارة بمنطقة الشاطبى أو المستشفى الميرى أو بجانب خط الترام كما ظهرت من قبل مقبرة كوم الشقافة بالصدفة أثناء إحدى عمليات الحفر..وهو محتوى ما قاله المؤرخ اليونانى سترابو حول وجود المقبرة فى الحى الملكى الذى يضم الآن مناطق «الشاطبى- الأزاريطة- المقابر المسيحية واليهودية والشلالات».

الأهالى ومعهم الخبراء والمهتمون بملف الآثار تعجبوا من تجبر المقاول وتساءلوا:كيف استطاع هذا الرجل بطرقه الملتوية أن يردم موقعاً به هذه الكنوز الأثرية التى تؤل ملكيتها للشعب..من أجل بناء كتلة خرسانية سيجنى من خلفها ملايين الجنيهات لشخصه هو أمام أعين حراس الحضارة ؟!..وآآآآه من حراس الحضارة!!..وهنا يقع اللوم-كل اللوم-على هيئة الآثار-المالك القانونى فى هذه الحالة للمساحة حسب القانون- ومعها الأجهزة التنفيذية والرقابية..ومن المؤسف حقاً أن أسمع بأن هذه ليست المرة الأولى التى ُيقدم فيها نفس المقاول على ارتكاب هذه الجرائم..بل هناك من يؤكد انه متخصص فى «تخليص» أو «تسليك» أى أرض أثرية مشابهة بادعاء أن «له سكك وتصريفات مع الموظفين فى الأرضى اللى زى دى بالذات»..يا صلاة النبى أحسن!!..آثار بهذه الأهمية تضيع على البشرية..ومليارات الجنيهات تضيع على الدولة جشع مقاول وبعض موظفين نسوا أو تناسوا ضمائرهم !!..فساد وفوضى وقلة وعى وانعدام ضمير أدوا بينا إلى قاع البشرية!!.