رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

في ذكرى ميلاده:

«عباس العقاد».. محطات في رحلة الأديب «الجاهل».. لم يُكمل تعليمه ولقب بـ «عملاق الأدب العربي».. اعتبر العمل الحكومي «استعباد».. ووضعه «هتلر» على قوائم المطلوبين للعقاب

جريدة الدستور

«ما الإرادة إلا كالسيف يصدئه الإهمال، ويشحذه الضرب والنزال».. كانت عقيدة راسخة لديه طوال مسيرته الأدبية التي استمرت أكثر من 50 عامًا، استطاع من خلالها التحليق في سماء الأدب، مُحبًا للقلم وعاشقًا للشعر، رغم أن تعليمه توقف عند مرحلة الإبتدائية ألا أنه استطاع بإرادته الحديدية الحصول على لقب «عملاق الأدب العربي».

«العقاد.. ورحلة التعليم»

هو الأديب الراحل «عباس محمود العقاد» الذي تحل ذكرى ميلاده الـ127 اليوم، والذي لم يكن ليعرف يوم مولده عام ١٨٨٩، أن حياته ستكون حافلة بالكثير من الانجازات، وأنه رغم تعليمه البسيط، سيصبح أحد أعلام الأدب العربي، ومثال للكفاح والمثابرة.

كان عاشقًا منذ ولادته في محافظة أسوان للقراءة والكتابة، والتي أهلته بعد ذلك ليكون أهم الكتاب والشعراء المصريين، ورغم ذلك لم يحصل سوى على الشهادة الابتدائية؛ فلم تكن محافظته السمراء تعرف المدارس الحديثة بعد، كذلك وقف الفقر عائقًا أمام أسرته التي لم تتمكن من إرساله إلى القاهرة كما يفعل الأعيان.

«العقاد.. يُعلم نفسه بنفسه»
استطاع «العقاد» أن يعلم نفسه بنفسه، معتمدًا في ذلك على ذكائه الحاد وصبره على التعلم والمعرفة حتى أصبح صاحب ثقافة موسوعية لا يضاهيه أحد فيه، ليس بالعلوم العربية فقط وإنما العلوم الغربية أيضًا؛ حيث أتقن اللغة الإنجليزية من مخالطته للسياح المتوافدين على محافظتي الأقصر وأسوان، مما مكنه من القراءة والإطلاع على الثقافات البعيدة.

ولم يكن الذكاء هو العامل الوحيد الي دفع بالأديب إلى أروقة الشعر والكتابة، ولكن امتلاكه لإرادة حقيقة، وإصراره الفولاذي على النجاح، كانا السببب الرئيسي في دفعه على درجات سلم النجاح سريعًا.

«العقاد.. ورحلة الصحافة»
كانت بداية حياته العملية من داخل مصنع للحرير في محافظة دمياط، ثم انتقل منها إلى العمل في السكك الحديد، بعدما أغلقت أبواب المدارس في وجهه، وبسبب ولعة الجم بالقراءة في مختلف المجالات، وإصراره على تثقيف نفسه أنفق معظم نقوده على شراء الكتب، والتحق بعمل كتابي بمحافظة قنا.

وصل إلى القاهرة طامحًا أن يعمل في الصحافة، حيث تتلمذ على يد المفكر والشاعر محمد حسين محمد، وأسس بالتعاون مع إبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري «مدرسة الديوان»، وكانت هذه المدرسة من أنصار التجديد في الشعر والخروج به عن القالب التقليدي العتيق.

عمل أيضًا جريدة الدستور عام 1907 حتى توقفت الجريدة عام 1912، ثم عمل بجريدة المؤيد، وجريدة الأهالي في 1917، ثم جرية الأهرام في 1919، وجريدة البلاغ في 1923 ألا أن اسمه ظل مرتبطًا باأخيرة.

«العقاد.. والعمل الحكومي»
ودفعته حاجته للمال إلى الدخول في مرحلة جديدة من حياته، عبر العمل الحكومي، الذي طالمه كرهه وضاق به ذراع، فكان «العقاد» يرى أن الوظيفة ما هي إلا نوع من أنواع الاستعباد التي يتميز بها القرن العشرين، ولكن كان لابد له من كسب قوت يومه، فاشتغل بوظائف حكومية كثيرة.

بدأت هذه الوظائف من داخل مصلحة التلغراف، ومنها إلى مصلحة السكة الحديد، ثم ديوان الأوقاف، حتى استقال منهم كلهم الواحدة تلو الأخرى؛ لأنه كان يرى أن ما من أمل له في الحياة سوى الكتابة والصحافة، وحينما قرر إنهاء حياته كموظف حكومي كتب واحد من أهم مقالاته تحت عنوان: «الاستخدام رق القرن العشرين».

وكتب في مقاله: «من السوابق التي أغتبط بها أنني كنت فيما أرجح أول موظف مصري استقال من وظيفة حكومية بمحض اختياره، يوم كانت الاستقالة من الوظيفة والانتحار في طبقة واحدة من الغرابة وخطل الرأي عند الأكثرين».

وتابع: «الوظيفة عملًا آليًا لا نصيب فيه للموظف الصغير والكبير غير الطاعة وقبول التسخير، وأما المسخر المطاع فهو الحاكم الأجنبي الذي يستولي على أداة الحكم كلها، ولا يدع فيها لأبناء البلاد عملًا إلا كعمل المسامير في تلك الأداة».

ولكن لم يكن «العقاد» يرى أن الوظيفة الحكومية عار على أصحابها، بل كان يرى أنه لن يكون في مكانه الصحيح إذا ظل موظفًا، فكان يهمه للقراءة والكتابة والاطلاع هو المحرك الأول والرئيسي لكل خطواته.

«العقاد.. يتزوج من القراءة»
ولم تكن حياته العاطفية حافلة بأي شيء يذكر، فحبه للقراءة دفعه للزواج منها، فلم يتزوج بعدما باتت الأخيرة هي الحب الأكبر في حياته، فقال عنها: «أن الكتب مثل الناس، فيهم الوقور والظريف، وفيهم الساذج الصادق، وفيهم الأديب والمخطيء، والخائن والجاهل، والوضيع والخليع».

وقال أيضًا: «القراءة وحدها هي التي تُعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة؛ لأنها تزيد هذه الحياة عمقًا، وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب».

«العقاد.. والعمل السياسي»
وحينما ترك العمل الحكومي وعاد ليتجه من جديد إلى الصحافة، دفعته الأخيرة للدخول أيضًا في أروقة السياسة، بعدما ذاع صيته، وبات يملك مواقف سياسية واضحة، تسببت له في الكثير من العناء والمتاعب، والتي بدأت منذ تعرفه على الزعيم سعد زغلول، ودخل معه في معارك حامية مع أعدائه، وكتب العديد من المقالات الصحفية في هذا الشأن.

وعندما أنتخب عضوًا بمجلس النواب بسبب مواقفه وشهرته الواسعة وقف تحت قبة البرلمان مهاجمًا الملك فؤاد الأول أمام الجميع، بسبب رغبة الأخير في تغيير الدستور وإسقاط مادتين تنصان على أن الشعب هو مصدر السلطات وأن الوزارة مسئولة أمام البرلمان.

قال جملته الشهيرة: «إن الأمة على استعداد؛ لأن تسحق أكبر رأس في البلاد يخون الدستور ولا يصونه»، الأمر الذي تسبب في حبسه تسعة أشهر عام 1930 بتهمة العيب في الذات الملكية.

كما كان له موقفًا معاديًا للنازية خلال الحرب العالمية الثانية، حتى إن الدعاية النازية وضعت اسمه بين المطلوبين للعقاب، وما إن اقترب جنود القائد الألماني «إرفين روميل» من أرض مصر حتى تخوف العقاد منه، وهرب سريعًا إلى السودان عام 1943 ولم يعد إلا بعد انتهاء الحرب بخسارة دول المحور.

وعقب هذه المشاحنات قرر «العقاد» الابتعاد عن السياسة بعد أن اصطدم بسياسة حزب الوفد تحت قيادة مصطفى النحاس عام 1935، فابتعد العقاد عن السياسة والصحافة بالقدر الكبير، وازداد اهتمامه وتركيزه على التأليف، لكنه لم ينقطع عن المشاركة في تحرير عدة صحف مثل زور اليوسف، والهلال، وأخبار اليوم، ومجلة الأزهر.

«العقاد.. ورحلة التأليف»
ألف الأديب قبل رحيله الكثير من الكتب في مجالات عدة، فكتب في الأدب والتاريخ والاجتماع مثل: «مطالعات في الكتب والحياة، ومراجعات في الأدب والفنون، وأشتات مجتمعة في اللغة والأدب، وساعات بين الكتب، وعقائد المفكرين في القرن العشرين، وجحا الضاحك المضحك، وبين الكتب والناس، والفصول، واليد القوية في مصر».

وله في السياسة عدة كتب يأتي في مقدمتها: «الحكم المطلق في القرن العشرين، هتلر في الميزان، وأفيون الشعوب، فلاسفة الحكم في العصر الحديث، الشيوعية والإسلام، النازية والأديان، لا شيوعية ولا استعمار».

تميز العقاد بمؤلفاته في الإسلاميات، أشهرهم على الإطلاق «سلسلة العبقريات»، وفي مجال الدفاع عن الإسلام كتب: «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، والفلسفة القرآنية، والتفكير فريضة إسلامية، ومطلع النور، والديمقراطية في الإسلام، والإنسان في القرآن الكريم، والإسلام في القرن العشرين وما يقال عن الإسلام».

ألف «العقاد» أكثر من مائة كتاب، وعشرة دواوين شعرية، وكتب آلاف المقالات الصحافية على مدار حياته، أثبتت مسيرته الأدبية والسياسية والإنسانية أنه رجل استثنائي ذو صبر وإصرار، لم يستسلم لظروف فقر أو جهل، حتى رحل في عام 1964.