رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا حياة للسوريين هنا.. ولا مدافن

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية

كان قلب أم حسن مشطوراً قسمين: ولدان لاجئان إلى مخيم «الورد» في منطقة زحلة في البقاع، وآخران يعيشان معها في حلب.
قطعت السيدة الستينية الحدود اللبنانية لتطمئن على ولديها في لبنان تاركةً شقيقيهما في سوريا. بعد وقت قصير على وصولها يأتيها صوت أحد أقاربها معزياً بوفاة ولديها في حلب إثر غارة استهدفت المنزل. لم تحتمل أم حسن الصدمة فقضت بسكتة قلبية. لم يكن بوسع ولديها اللاجئيّن إعادتها إلى بلدهما، ولم يجدا مكاناً يدفنانها فيه. حملا جثمانها يدوران به بينما توكل الأقارب بدفن شقيقيهما في حلب.
يومها أجلا حزنهما عليها وعلى نصفهما الأخر في سوريا، وصارا يبحثان عن متري أرض يودعان فيه أمهما الغالية، إلى أن دلّهما بعض المعارف إلى مقبرة «الغرباء» في طرابلس. هناك سجيت أم حسن «الغريبة» التي قتلها الحزن. أما القصص عن جثامين تبقى في البرادات لأيام طويلة فكثيرة ومؤلمة إلى درجة يطغى فيها أحياناً همّ دفن الأحبّاء على الحزن لفقدهم.
لا يقل عدد السوريين الذين هجّرتهم الحرب السورية إلى لبنان عن نحو مليون ونصف مليون لاجئ كأقل تقدير. من بينهم مليون و48 ألف لاجئ مسجل مع مفوضية اللاجئين. يبلغ هؤلاء نحو ثلث السكان اللبنانيين المقيمين. ومن الطبيعي أن تحصل وفيات يومية في صفوفهم، فضلاً عن إصابات لجرحى قد يموتون بعد نقلهم من سوريا، وحوادث حرائق في المخيمات وصدم بالسيارات وموت مسنين ومرضى، فيما مات سوريون يعيشون في المخيمات نتيجة للعواصف الثلجية شتاءً.
في بداية الأزمة لم تأخذ قضية دفن السوريين بعداً إشكالياً. ولكن وبعد العام 2013 بدأت الاعتراضات تتعالى من سكان بعض القرى والمناطق وخصوصاً في البقاع والشمال (حيث كثافة السوريين هي الأعلى فيهما)، كونه يتم دفن السوريين المقيمين في المحافظات الثلاث (البقاع وشمال لبنان وعكار) بالإضافة إلى الذين يموتون في مناطق أخرى كبيروت وغيرها من المدن حيث لا مقابر لسكانها فكيف باللاجئين إليها.
يمنح البعض لمشكلة إيجاد مقابر للسوريين بعداً عنصرياً، مشيرين إلى رفض بعض اللبنانيين مواراتهم في ثرى بلداتهم، فيما يؤكد آخرون ومن بينهم مسؤولين في دار الفتوى أن المسألة تكمن في إزدحام المقابر ليس إلا، وأن مناطق كثيرة فتحت مقابرها للسوريين الأموات قدر الإمكان، وأنه أحياناً يتعذر فعلياً إيجاد مكان للدفن.
المفوضية من جهتها تُحيل المستعينين بها إلى وزارة الشؤون الاجتماعية وإلى دار الإفتاء «نحن لا يمكننا المساعدة في هذا الأمر»، وفق ليزا بو خالد من المكتب الإعلامي للمفوضية.

رنا التي لا يزيد حجمها عن نصف ذراع
توفيت. الطفلة الأولى لـ «الشاويش» خالد الحساني في أحد مخيمات البقاع. أكثر من أربع سنوات أمضاها الرجل منتظراً أن يُرزق بمولود. لكن فرحته لم تكتمل. توفيت طفلته بعد أسبوع لعدم اكتمال رئتيّها. كما لم يفرح الرجل بقدوم صغيرته، لم يجد فرصةً للحزن عليها، فقد ابتلى بمصاب أعظم: في البحث عن قبر يحضنها.
يحكي خالد وتنهمر دموع والدة رنا التي لم تتمكن مشاركة زوجها الحديث بداية إلى أن نطقت: «كان حجم رنا أصغر من حجم نصف ذراع رجل بالغ، ومع ذلك عانينا الأمرّين لنجد متر تراب لدفنها». تقول أم رنا «كدنا نهلك لنجد أرضاً نلجأ إليها، وعندما نموت لا يختلف الأمر كثيراً. علينا أن نستجدي لنجد أرضاً تطمرنا».
يؤكد اللاجئ السوري أبو جاسم أن امتداد الأزمة وارتفاع عدد الوفيات من السوريين أدى إلى بروز حاجة فعلية لإنشاء مقابر خاصة بهم، فنحن ندفن في اليوم الواحد شخصين على الأقل، وفي كلّ مرّة نخسر فيها فقيداً نحتار في أمرنا أين يمكن لنا أن ندفنه».
مدافن البقاع
فتحت ثلاثة مدافن في البقاع أبوابها للسوريين في بلدات الفاعور والدلهمية والعمرية. اليوم لم يبق سوى الفاعور بعدما علت أصوات أهالي الدلهمية والعمرية اعتراضاً. ومع ذلك يبتسم أبو جاسم بهدوء ليقول «مو هالقد مصعبينها، عم نظبطها بالمونة عبر اللجوء لأشخاص نعرفهم للتوسط لنا». وقد حدث ذلك أكثر من مرّة في مقبرة الدلهمية، وفق أبو جاسم «لسّا فيه ولاد حلال بها الدنيا».
تبرع أحد أبناء الفاعور بقطعة أرض كبيرة لدفن الموتى من اللاجئين، بعدما أسفرت ندرة المدافن عن وقوع العديد من المشاكل بينهم وبين اللبنانيين. وغالباً، يتواصل أهالي الفقيد مع المسؤول عن المقبرة حيث يتولى أمر الغسل والكفن والحفر والتجهيز، كما التواصل مع شيخ للصلاة على الميت ودفنه. وتكلف هذه الخدمات 250 ألف ليرة.
يوضح رئيس هيئة الإغاثة في دار الإفتاء في البقاع الشيخ وسام عنوز أن «الدار تُعني هذا الملف أهمية بالغة من منطلق ديني أولاً وإنساني ثانياً»، مشيراً إلى «عدم وجود أماكن لدفن الموتى ولكننا نجهد لعدم إقفال أبواب الحلول بوجه اللاجئين».
ويكشف عنوز لـ «السفير» أنه «في أكثر من مرّة قدِم إلينا لاجئون يحملون جثث أبنائهم بعدما يأسوا من محاولات التفتيش عن أماكن لدفنها من دون جدوى، وتركوها بعهدتنا وقد استطعنا بعد جهد تدبير أمرها».
وينفي البعد العنصري لرفض لبنانيين استقبال جثث اللاجئين، راداً الأمر لضيق المساحة: «فالجثة تحتاج إلى ما يقارب السنتيّن لتتحلل، وعندما يفتح اللبناني مقبرته لدفن أي شخص آخر يصعب عليه إعادة فتحها مرّة أخرى في فترة قصيرة في حال وفاة أحد في عائلته، وهذا ما يعقّد الأمور».
وتبحث دار الإفتاء حالياً عن أرض مناسبة لتخصيصها لهذا الغرض، فيما يقول عنوز إن السفير السعودي علي عواض عسيري «اتصل منذ نحو أسبوع بمفتي البقاع الشيخ خليل الميس مبلغاً إياه استعداد السعودية شراء أرض لدفن السوريين».
في المقابل، يشوب خيار إعادة الجثث إلى سوريا مخاطر عدة. تطرق اللاجئة ثريا يدها بقوة فوق رأسها لتسأل: «من يضمن لنا عودة أبنائنا بعد الدفن أحياء سالمين من هناك؟». يوضح خالد سبب خوفها: «في إحدى المرات تم نقل إحدى الجثث إلى سوريا لدفنها فتكبدنا عذاباً مضاعفاّ. إذ طالبتنا السلطات المعنية بتأمين وثيقة وفاة وشهادة صحية للميت. وأُلزمنا دفع ضريبة على دخوله ومخالفة سير كانت قد سُطرت بحقه في سوريا قبل اندلاع الحرب، فضلاً عن فتح تحقيق بأسباب الوفاة». ويتابع: و «الأسوأ أنه تم توقيف شقيق الفقيد واحتجازه لأسباب لم نعرفها، وما زلنا حتى اليوم لا نعرف شيئاً عنه».

«الغرباء» تحتضن السوريين أيضاً
بعض ما يحصل في البقاع ينسحب على اللاجئين وموتاهم في مناطق أخرى. حتى عندما تضيق مدافن البقاع يتم اللجوء إلى «الغرباء» في طرابلس.
تضم مقبرة الغرباء، وكما يدل اسمها، كلّ متوفٍ «غريب» عن المنطقة. تدخل يومياً جثةً أو جثتان إلى المقبرة، «ما عم يخلو حدا ما يجيبوه لعنا»، تصرخ إحدى السيدات القاطنات في المقبرة بعصبية، ناسية أن المشكلة الاساسية ليست في دفن الغرباء بل في سكنها في المقبرة هي وعائلات أخرى. يتسابق القاطنين بالقرب منها (قرابة الـ150 عائلة) في منازل صغيرة لا تفصلها عن المقابر سوى أمتار قليلة، على الحديث عن معاناتهم: «لا يمكننا النوم في الليل من الروائح الكريهة المنبعثة من القبور الحديثة»، تصرخ إحداهن. فيما تشير أخرى إلى أن «الأطفال لا يجدون أماكن للهو بسبب ازدياد عدد القبور واقترابها أكثر وأكثر من المنازل».
ويكشف سعيد العلي، المسؤول عن المقبرة والعامل فيها، أن «المقبرة تستقبل بشكل يومي وفيات من اللاجئين السوريين من بيروت وبرج حمود والبقاع والشمال»، مشيراً إلى أن «كلفة الدفن لا تتعدى الـ250 ألفاً، وفي بعض الأحيان يتم مراعاة العائلات الفقيرة فيتم الدفن من دون الحصول على أي بدل مادي».
ويؤكد أن «دار الإفتاء تبحث عن أرض ليتم فيها إنشاء مقبرة لدفن السوريين، وقد بدأت العمل في أرض في محلة أبي سمراء إلا أن العمل عاد وتوقف بسبب طبيعة الأرض التي اتضح أنها غنية بالمياه».
يرفض الرجل دفن أي لاجئ من دون أوراق ثبوتية أو شهادة وفاة من المستشفى تعرّف عنه لأسباب أمنية، موضحاً أن غياب الأسماء عن القبور يعود للضائقة المادية التي يعاني منها كثيرون من اللبنانيين والسوريين.