رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد غنيم يكتب ... مُحاكمة الرواية .. بين التاريخ والإبداع

جريدة الدستور

في السنوات الأخيرة أمطرتنا دور النشر بسيول من الروايات، فصارت الرواية كما لو أنها وجهة كل من يسعى لرؤية اسمه مطبوعا تحت عنوان شيق في غلاف مبهرج خلفه مجموعة من الصفحات، تقرؤها فتضرب أخماسا في أسداس تعض على يديك من الغيظ ندما وحسرة على هذا الوقت الذي أهديته بلا ثمن لشيء ليس له قيمة.

من بين مئات الروايات التي نراها ستجد كل عام رواية أو روايتين أو ثلاث على أكثر تقدير، تصلح أن تكون رواية، وليس تغوط كاتب أراد تفريغ ما بداخله من شهوات وفراغ وشتات وجهل بأسلوب يسيء للغة وللبلاغة وللقارئ نفسه، لذلك فعندما نتكلم عن الرواية، فسيتجاهل موضوعنا مئات الروايات التي نراها من حولنا.

قرأت منذ أيام "منشورا" على إحدى صفحات الفيسبوك، يتكلم عن بعض الحقائق التاريخية الواردة برواية أحمد مراد الأخيرة "أرض الإله"، وأنها قد صححت لديه مفاهيم عديدة، لم يكن على علم بها ذي قبل .. وهنا استشعرت الكارثة التي يقودنا إليها هذا الخلط بين الرواية والتاريخ.

إذا رأيت شعبًا يتخذ من الرواية مرجعًا تاريخيًا، فاعلم أن تاريخه قد تفرقت دماؤه بين خيالات المؤلفين !

يجلس المتخصص بدراسة التاريخ في مكتبته يطالع أمّات الكتب التي تعد مراجع ومصادر لدراسة تاريخ العصور القديمة والوسطى والحديثة، ويعرف الحضارات وطبيعة المجتمعات البشرية في حقب مختلفة، تلك المراجع التي كتبها مؤرخون وليس روائيون.

المؤرخ يشبه المُصور الفوتوغرافي، يُمسك بكاميرته يلتقط صورة لمشهد أمامه في الواقع، مهما اختلفت الزاوية والرؤية للمصور، فلن تكون الصورة الملتقطة من خيال المصور، ولكنها انعكاسا للمشهد الموجود بالواقع، ولو جئنا بعشرة مصورين لالتقاط نفس المشهد وكل مصور حسب رؤيته الإبداعية في التقاط أفضل صورة، فلن يأتي بمشهد سوى ما التقطته عدسة الكاميرة لصورة حقيقية في الواقع.

أما الروائي فهو كالرسام، يُمسك بريشته يضع خطوطه وينسخ حدوده نقلا عن خياله، يستخدم ألوانه بما يجده مناسبا للصورة حسبما يرى هو حتى وإن كان يرسم وجه إنسان يجلس أمامه، فلو جئنا بمئات الرسامين لرسم نفس الشخص، فستكون الصورة المرسومة حسب رؤية كل رسام من وجهة نظره، وتتعدد رؤى الرسامين حتى تصل إلى التجرد من الواقعية، برسم شيء ليس له وجود إلا في خيال الرسام.

ومهما حاول الرسام أن يقنع الجميع بأن ما رسمه هو صورة واقعية، فسيعلم كل من يراها أنها صورة مرسومة، وليست فوتوغرافية، وهذا ما يميز عمل الرسام، كما يميز عمل المصور أنه يلتقط صور الواقع كما هو، وبالخروج من هذا المثال، فإن من العبث والتشويه للإبداع أن يحاول الروائي أن يصبغ عمله بصبغة الحقيقة التاريخية الموثقة.

عزيزي الروائي أنت مبدع، ولست مؤرخًا، عليك احترام إبداعك وخيالك ورؤيتك، بل عليك احترام تخصصك ككاتب روائي، لماذا تذهب بروايتك إلى المتخصصين بالتاريخ لأخذ تصريح منهم بأن هذا العمل تم مراجعته تاريخيًا، اعذرني إنك كالذي نحت حمارًا، ثم أخذ تمثاله إلى طبيب بيطري، يطلب منه أن يصدر له تصريحًا بأن هذا التمثال هو حمار حقيقي من ذوات الأرواح، عندها لا تلم الطبيب إذا أخبرك أنك ...!

كثير من الأشخاص عندما يريدون إحداث ضجة حول عملهم، إما يطرقون أبواب العقائد الدينية أو الثوابت التاريخية أو يقرعون طبول الخروج عن المألوف والسائد بهتك عرض الحياء والعُرف، هؤلاء الأشخاص قد ينجحون في تحقيق مبتغاهم من شهرة أو مال ولكن يبقى اسمهم وعملهم كصدى الصوت سرعان ما يرتد إليهم، ويتناساه كل من سمعه، أما البقاء والخلود فهذا حظ أصحاب المواهب الحقيقية الذين يتركون إبداعهم فقط خير دليل للبحث عن أعمالهم وشهرتها.

وكما توجهت بالمحاكمة للكاتب، فالقارئ أيضا له نصيب كبير من تلك المحاكمة، عزيزي القارئ أنت لديك عقل ووعي تستطيع بسهولة أن تميز بين ما تمسكه في يديك، إن كانت رواية تأخذ منها فكرة جديدة ولغة قوية وتشويق بهدف اتساع مداركك لما وراء الواقع، وترك العنان لخيالك ليبحر مع الكاتب في رؤية أحداث وشخوص رسمها لك بخياله، أو مرجعًا تاريخيا تأخذ منه رصد المؤرخين لأحداث الواقع وتواريخ ثابتة وأسماء شخصيات حقيقية بهدف اكتساب المعلومات عن سابق الأزمان والأسلاف.

أما الناقد الأدبي الذي يقرأ الرواية ليدلي دلوه حولها، فليس من دوره أن يشكك في المعلومات الواردة بالرواية، أي معلومات عزيزي الناقد التي تحاكم الكاتب بأن بها مغالطات تاريخية أو عقائدية، هذا ليس دورك، هل رأيت قاضيًا يحكم بالإعدام على شخص داخل رواية لأنه ارتكب جرائم قتل بأحداثها، إنك كالقاضي في عملك ولكن أدواتك هي الحكم على الإبداع والخيال واللغة ورسم الشخصيات والربط بين الأحداث والتسلسل والحبكة والفكرة والنهاية وليس مدى الربط بين الرواية وبين الأحداث التاريخية وسياقها الواقعي.

ولا يعني كلامي أن بهذا يجد الكاتب مبرره للكتابة كما يرى ويشطح بخياله حيث يذهب المختلون عقليا والمرضىى نفسيا وأصحاب النقص، فهناك دين يحكم خيالنا، وأخلاقيات تفرض علينا الالتزام نحو المجتمع والنشء، نراعي الله فيما نقدمه لهم، ولا نكن عُبّادًا لشهرتنا ونجاح أعمالنا، وهنا تقع المسئولية وليس القيود على عاتق الكاتب، فالحرية كلما زادت لعنان الخيال، زادت معها المسئولية، فالحر يُمنح حريته من التزامه وجدارته بالحرية، أما المجرم بداعي الحرية تُسلب منه حريته ويتعرض للمحاكمة لأنه لم يتحمل المسئولية تجاه نفسه وتجاه المجتمع.

بالنهاية أستطيع التأكيد على أن الخلط بين الحقيقة والخيال، لا يحدث إلا بالمجتمعات الأقل ثقافة وعلما وتقدما، فكلما انحدرت الثقافات استغل الروائي ذلك في التسويق لروايته على أنها حقائق تاريخية يسلم لها القارئ ذهنه ويصدقها، واستغل حريته في التشويه والقبح وليس الجمال، واستخدمها القارئ على أنها مصدر يستمد منها معلوماته حول التاريخ أو مغالطات يجب تكذيبها وإنكارها.