رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

100 عام على تشتت العرب في تركة «الرجل المريض»

جريدة الدستور

في نهاية 1915، حاولت الإمبراطورية العثمانية استعادة أراضيها المفقودة فى الحرب العالمية الأولى، فهاجم الأسطول العثماني الموانئ الروسية في البحر الأسود، فأعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية، واقتدت بها كل من بريطانيا وفرنسا، وردّ السلطان محمد الخامس بإعلان الحرب، ودعا المسلمين إلى الجهاد.

لكن ذلك لم يتحقق، فأغلب مسلمي العالم كانوا يزرحون تحت نير الاستعمار البريطاني أو الفرنسي، وكانت السلطات الاستعمارية قد جندت بعضًا منهم أيضًا في جيوشها، فخاضت الجيوش العثمانية الحرب على جبهات متعددة من دون استعداد كامل، حتى تحولت الإمبراطورية العثمانية إلى «رجل مريض»، فتفككت وانهارت، وحينها تحركت القوتان الاستعماريتان الكبيرتان فرنسا بنفوذها الاقتصادي والثقافي في المشرق، وبريطانيا في مصر، لتنفيذ «مخطط سايكس بيكو».

المخطط بدأ بمفاوضات أجراها المفوض البريطاني السامي في مصر هنري مكماهون، مع الشريف حسين في مكة المكرمة، أغراه فيها باستعداد بلاده لدعمه فى استقلال العرب، والتنسيق لثورة مسلحة ضد الإمبراطورية العثمانية، وذلك للتصدى للدعوة إلى الجهاد التي أطلقها السلطان محمد الخامس.

لكن اتضح فيما بعد أن البريطانيين خدعوا الشريف حسين فبعد القضاء على الإمبراطورية العثمانية عام 1924م، اتضح للجميع أن بريطانيا فى وقت اتفاقها مع أمير مكة بين عامى 1915 و1916م، كان مندوبها مارك سايكس ينسق مع الفرنسى فرانسوا جورج بيكو؛ لتقسيم تركة الدولة العثمانية وتحويل الأراضى العربية إلى مجرد دويلات صغيرة يسهل التلاعب بها والتحكم فى مقدراتها بسهولة، وأبرما اتفاقًا سريًا بقسيم المناطق التي كانت خاضعة للسيطرة العثمانية وهي سوريا والعراق ولبنان وفلسطين إلى مناطق تخضع للسيطرة الفرنسية وأخرى تخضع للسيطرة البريطانية، وسميت الاتفاقية باسمي المفاوضين «سايكس بيكو».

وحينما كان العرب يسعون بكل قوتهم للحصول على اعتراف بحقهم في تأسيس دولة عربية، كانت تُجرى سرًا مفاوضات بين بريطانيا وفرنسا، بمصادقة من الإمبراطورية الروسية القيصرية على اقتسام الهلال الخصيب (العراق ـ سوريا ـ لبنان ـ الأردن ـ فلسطين)، بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ فى منطقة غربى آسيا، وتفكيك الدولة العثمانية آنذاك.

بيد أن العرب أدركوا أنهم خُدعوا، وأن بريطانيا استغلت توقهم للاستقلال عن الخلافة العثمانية لمحاربتها بأيديهم. وأن الشريف حسين، الذي قاد الثورة العربية الكبرى، وتحالف مع البريطانيين لنقل الخلافة إلى العرب، لم يكن إلا أداة لمحاربة الأتراك، تُخلي عنه عندما انتفت الحاجة إليه.

وتم الكشف عن الاتفاقية بصورتها الحقيقية ووثائقها السرية عندما وصل الشيوعيون إلى سدة الحكم فى موسكو العام 1917؛ لأن روسيا القيصرية كانت ضالعة فى التفاهم والترتيب لبنود الاتفاقية، حيث كشف الاتفاق عن تقسيم منطقة الهلال الخصيب، وبالفعل حصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربى من الهلال (سوريا ولبنان) ومنطقة الموصل فى العراق.

فيما حصلت المملكة المتحدة، بموجب الاتفاقية على بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربى والمنطقة الفرنسية فى سوريا، كما تقرر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا، وهكذا ظل الحال إلى حين قيام دولة إسرائيل على الأرض العربية.

وبقي تقاسم الأراضي هذا نظريا، إذ إن القوات التركية كانت مازالت موجودة في المناطق المعنية، وتحت أنظار فرنسوا جورج بيكو الذي أصبح مفوضا ساميا في سوريا وفلسطين، احتل الجنرال البريطاني إدموند اللينبي القدس في 11 ديسمبر 1917، ثم سقطت دمشق في 30 سبتمبر 1918.

وما إن انتهت الحرب، حتى قام رئيسا الحكومتين الفرنسية والبريطانية بتعديل اتفاق سايكس بيكو، بينما بدأت تبرز أهمية النفط في المنطقة، وتخلت فرنسا عندئذ عن فلسطين ومنطقة الموصل مع المطالبة بحصتها من النفط.

وفي 1921 تخلت فرنسا عن كيليكيا ثم في 1939 عن لواء إسكندرونا السوري جنوب تركيا، وفي 1922، وبعد سحق الثورات في فلسطين وسوريا والعراق، صادقت عصبة الأمم على وضع هذه المناطق تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني، وبدأ نشاط الحركة الصهيونية لتطبيق وعد بلفور بإقامة إسرائيل.

وبعد 100 عام، لم تنته اتفاقية سايكس بيكو في حينها، بل بات الوطن العربي مهددًا بتغييرات أخرى لصالح تفتيت دول عربية، نتيجة لتمسك زعمائها ومراكز القوى فيها بالمناصب القيادية والنفوذ السلطوي وتمسك شعوبها بالحرية والعدالة الاجتماعية، وبات يطرح بقوة مشروع لإعادة تقسيم الوطن العربي إلى دويلات تقوم على الانتماءات الطائفية، دولة للمسيحيين ودولة للشيعة أو العلويين أو السنة أو الأكراد، ما يشجع إسرائيل على اتخاذ صفة طائفية شرعية هي «الدولة اليهودية»