رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ذكرت فى المقال السابق أنه بالرغم من أن أفريقيا تعتبر القارة الثانية بعـد آسيا من حيث المساحة وعدد السكان، وبالرغم من أنها تضم 54 دولة أفـريقيـة أصبحت مستقلة ذات سيادة، إلا أن معظم هذه الدول لا تزال تحتفظ بالحدود التى رسمها المستعمـر، وأن معـظمها لا تزال تعانى كثيرًا من تبعات فترة الاستعمار حتى أصبحت شعـوبها هى الشعـوب الأكثـر تخـلفـاً وفـقـرًا بين شعـوب قارات العالم الأخرى...

التزاحم الأجنبى فى القارة الأفريقية «2»


... فلم يعمل المستعـمـر على إحـداث التنمية البشرية الضرورية لتقدم هذه الشعـوب، فانتشر الجهل وعمت الأمية وسادت الفوضى وانتشر الفساد، وتفشت الأمراض حتى أن الدول الخمس والعشرين التى تحتل المرتبة من الواحد وخمسين بعـد المائة حتى المرتبة الخامسة والسبعين بعـد المائة عن السنوات العشر الأخيرة فى تقريـر التنمية البشرية الصادر عن منظمة الأمم المتحدة هى دول أفريقية، ثم ذكرت أن السنوات الأخيرة من القرن الماضى قـد شهدت تزاحماً كبيراً للتواجد الأجنبى فى القارة الأفريقية على نحو عام ، وفى منطقة جنوب البحر الأحمر أو ما يُعرف بـالقرن الأفريقى الكبير على نحو خاص ، سواء كان هذا التزاحم من القوى العظمى والكبرى، أو من القوى الإقليمية الشرق أوسطية خاصة القوى غير العربية، وتساءلت فى نهاية المقال عما إذا كان الاستعمار يُمكن أن يُعاود سيرته الأولى فى القارة السمراء، فإذا كان الأمر كذلك فما أسباب هـذا التزاحم والتواجد؟ وما صوره وأهدافـه؟ وما أدوات تحقيقها؟ وما تأثير ذلك على الأمن الإقليمى الأفريقى بشكل عام، والأمن القومى المصرى بشكل خاص؟

وللرد على هذا الزخم من التساؤلات فإنه من المناسب البدء بقطب النظام الدولى الراهن الوحيد الذى يحتل قمة هرمه ويستحوذ على النفوذ على الساحة الدولية ، ومن المناسب أيضاً أن يتم توضيح الموقف الأمريكى من هذه المسألة فى تسلسل تاريخى، ففى سنة 1902صدر كتاب بعنوان The Influence of Sea Power Upon History للأدميرال الفريـد ماهان أبو الاستراتيجيةالأمريكية وصاحب نظرية القوى البحرية ، وهى النظرية التى تقابـل نظرية القوى البرية لماكـنـدر، ونظرية القوى الجوية لدى سيفـرسكى، حيث تبحث النظريات الثلاث فى استراتيجية السيطرة على العالم ، وتتلخص نظرية ماهان فى إيجاز شديـد فى أن « من يسيطر على البحار والمحيطات لن يلبث طويلاً حتى يسيطر على العالم بأسره»، فإن أرادت الولايات المتحدة يوماً الهيمنة على العالم، فعـليها أولاً أن تسيطر على البحار والمحيطات، وعليها ثانياً أن تقوم بفرض نظام عالمى جديــد، وعليها ثالثاً السعى الدؤوب لمنع قيام قوة عالمية أو إقليمية تعـوق تحقيق أهداف الولايات المتحدة أو تهدد مصالحها الحيـويـة، وعليها رابعاً التواجد فى مناطق استخراج الطاقة والمعادن الاستراتيجية خاصة تلك التى تستخدم فى الصناعات الحربية الاستراتيجية، وما يهمنا فىهذا الموضوع ما تضمنه المحتوى الفكرى للأدميرال ماهان فى البندين الأخيرين.

إذ يٌمكن ملاحظة قيام الولايات المتحدة فى الوقت الراهن بتركيز جهودها الرئيسية للتفرغ للقوى العالمية الصاعـدة «الدب الروسى وريث القوة السوفييتية العظمى ، والتنين الصينى الصاعـد بمعـدلات تنمية غـيـر مسبوقة وصعـود عـسكرى وبحرى ملحوظ» وهو ما يبرر لنا التواجد الأمريكى المكثف فى العراق وأفغانستان وقطر والبحرين لتكون بالقرب من هاتين القوتين، ويبرر لنا سعيها الحثيث للتواجد المكثف بمنطقة بحر الصين الجنوبى «مضيق ملقا»، وافتعالها أزمة أوكرانيا «البحرالأسود ـ بحر مرمرة» لإدارة الصراع بين القوى البحرية والقوى البرية.

كما يُمكن ملاحظة أن الولايات المتحدة تتجنب التورط فى درس القرن العـشرين الذى لقـنته للاتحاد السوفييتى وأدى إلى تفكيكه، ذلك الدرس الذى يمكن إيجازه فى أن قوة الدولة لاتـقاس فقط بالقـوة العـسكرية، خاصة بعـد أن استشعـرت الولايات المتحدة أن هناك تناقضاً واضحاً بين قوتها العسكرية التى تتمتع بالمكانة الأولى فى العالم، وبين قوتها الاقتصادية التى بدأت القوى الأخرى فى منافستها «روسيا والصين والتكتلات الاقتصادية»، وهو ما يبرر سعـيـها إلى الاستئثار بالمعـادن الاستراتيجـيـة فـى وسـط أفريقـيا وحرمان الآخرين من الحصول عـليها، خاصة معادن الكوبـالت، والبلاتـينيـوم، والنـيـكل كـروم، والمنجنيـز وهى المعادن اللازمة لإنتاج المركبات والطائرات والدبابات، حيث تنتج زائير وحدها 56% وزامبيا 16% من الإنتاج العالمى من هذه المعادن، مع الوضع فى الاعتبار أنه لا يوجد بديل آخر أمام الولايات المتحدة إذا فقـدت هذه المناجم، كما تعـتبر زامبيا أيضاً أكبر دولة منتجة للنحاس فى العالم، بينما تعـتبر بوتسوانا أكبر دولة فى العالم منتجة لخام الماس. ونستكمل الحديث عن صور وأهداف تواجد الولايات المتحدة فى أفريقيا وأدوات تحقيق أهدافها فى الأسبوع المقبل بإذن الله.

 أستاذ العلوم السياسية- جامعة بورسعيد