رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جنيف 2016 - 2066


أعتقد أن قرار الرئيس فلاديمير بوتين الذى أعلنه يوم الإثنين 14/3/2016 بسحب الجزء الأكبر من القوات الروسية من سوريا، يعتبر هو الحدث الأبرز والأهم خلال هذه الفترة والذى أراه جديراً بالبحث والتحليل لما له من مدلولٍ ولما يمكن أن يحدثه من أثرٍ فى مجريات الأحداث ليس على الصعيد السورى فقط، ولكن على صعيد دول المنطقة بأسرها لقد فاجأ الرئيس الروسى العالم بهذا القرار بعد عدة أيام من بدء مفاوضات جنيف بين وفد الحكومة السورية وممثلى القوى المسلحة التى يُطلقُ عليها فصائل المعارضة السورية. ورغم أن الرئيس الروسى أعلن أن هذه القوات أدت مهامها ويمكن أن تعود خلال ساعات إذا دعت الضرورة لذلك، إلا أن بعضاً من المحللين السياسيين ذهب إلى أن هذا القرار يدل على تخلى روسيا عن نظام الحكم السورى وهو ما يعنى تغييراً استراتيجياً فى الموقف الروسى تجاه الصراع على الأرض السورية، فى حين ذهب البعض الآخر إلى أن القرار هو مجرد حركةٍ تكتيكيةٍ للضغط على وفود التفاوض فى جنيف وإجبارها على صيغةٍ محددةٍ للحل السياسى للأزمة.

وإذا كان لهذه الرؤية أو تلك ما يبررها، إلا أننى أعتقد أن القرار ينطوى على مدلولٍ أكبر وأخطر بكثير، ولاستبيانه نسترجع سريعاً فصول المحنة السورية التى بدأت منذ أكثر من خمس سنوات بأعمال التظاهر والفوضى التى أُصطُنعت تحت شعار ثورات الربيع العربى، ثم الدفع بفصائل إرهابية تنتمى لأكثر من ثمانين جنسية إلى داخل سوريا، ثم إعلان الولايات المتحدة الأمريكية - دون أى شرعيةٍ قانونيةٍ أو أخلاقية - عن تشكيل تحالفٍ غربى لمحاربة تنظيم داعش الإرهابى فى العراق، وبعد أيامٍ قليلةٍ من بدء عمليات التحالف لتحقيق أهدافه المزعومة، إذا بالرئيس أوباما يعلن أن محاربة داعش تبدأ من سوريا ولم يكن لداعش فى هذا التوقيت أى وجود فيها، ولكن إعلانه هذا كان لاستباحة قصف المواقع العسكرية والاقتصادية السورية، ثم كانت محاولة الولايات الأمريكية للتدخل عسكرياً بصورةٍ مباشرة لاحتلال سوريا بدعوى امتلاكها أسلحة كيماوية تهدد السلم والأمن الدوليين مثلما فعلت من قبل مع العراق، وحينما باءت محاولتها بالفشل لم تجد بُداً من تكثيف دعمها للقوى الإرهابية بتدريبها وتسليحها بأحدث الأسلحة الثقيلة والمتوسطة لإسقاط الدولة حتى كادت دمشق أن تسقط بالفعل، وعندئذٍ تدخلت روسيا عسكرياً ولكن بغطاءٍ قانونىٍ مشروع وهو طلب الحكومة السورية.

وبعد أن ألحق التدخل الروسى خلال خمسة أشهر خسائر حقيقية فادحة بالقوى الإرهابية، تلقت روسيا عدة رسائل تهديدية مثل إسقاط طائرتيها المدنية والعسكرية فوق سيناء وتركيا وتشكيل السعودية للتحالف الإسلامى، فاضطرت للتوافق مع الإرادة الأمريكية على وقف القتال وبدء مفاوضات الحل السياسى للأزمة. إن القراءة الموضوعية لتلك الأحداث تدعونى للظن بأن الانسحاب الروسى من سوريا فى هذا التوقيت جاء تلبيةً للرغبة الأمريكية كشرطٍ لمفاوضات جنيف التى ستُتخذ تكأةً للحفاظ على الوضع الراهن وهو الوضع الذى يُرضى الدولتين. فبالنسبة لروسيا فقد استطاعت منع الغرب من احتلال سوريا وحافظت بذلك على أمنها القومى وحصّنت تواجدها العسكرى فى قاعدتى أحميم وطرطوس وعززت نفوذها السياسى فى المنطقة. وبالنسبة لأمريكا فقد استنزفت القدرات العسكرية والاقتصادية للدولة السورية بالقدر الذى يجعلها لا تمثل أىَ تهديدٍ للكيان الصهيونى، كما أن الوضع الحالى على الأرض يُعد تقسيماً للدولة حتى وإن لم يُعلن رسمياً.

فالقوات الحكومية تسيطر على دمشق وبعض المدن الرئيسية مثل حماه وحلب والميليشيات الكردية تسيطر على القامشلى والحسكه وكوبانى والشريط الحدودى بطول حوالى 400 كيلو وتنظيم داعش يسيطر على الرقه وريف حلب ودير الزور والفصائل المسلحة الأخرى تسيطر على أدلب وبعض المدن الأخرى، وبطبيعة الحال كلما طال أمدُ المفاوضات استقر الوضع على ما هو عليه مع تآكل الدولة نتيجة التوتر والصراع بين هذه القوى. لذلك أعتقد أن الادارة الأمريكية سوف تحرص على استمرار مفاوضات جنيف لخمسين عاماً مقبلة سواءً ببقاء نظام الأسد أو رحيله، فسيناريو القضية الفلسطينية مهيأٌ للتطبيق على سوريا، فهل يفيق العرب قبل فوات الآوان؟ حفظ الله مصرنا الغالية، وهدانا جميعاً سواَءَ السبيل،،

■ كاتب