رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الواقع العربى.. وانسحاب روسيا من سوريا


على مستوى الداخل الروسى فقد حقق التدخل الروسى فى سوريا ثلاثة أهداف، فقـد ضمن بوتين فوز جميع أعضاء حزبـه واكتسب مؤيـديـن من خارج حزبـه فى انتخابات مجلس الدوما «البرلمان الروسى» قبل أن تبدأ فى سبتمبر القادم أولاً.

فى المقال السابق تساءلت عما إذا كان يُمكن لعاقـل أن يتصور أن تسحب روسيا قوتها البشرية المسلحة كلها وأسلحتها ومعـداتها القتالية وذخائرها وأجهزتها الفـنـيـة من سوريا، وإخلاء قاعـدتى حميميم الجوية وطرطوس البحريـة؟ ثم تناولت بعض الاعتبارات الرئيسية التى ربما تسهم فى توضيح الإجابـة، وتلقى الضوء على الأهداف التى حققتها القوات الروسية بتدخلها فى سوريا، فكان الاعتبار الأول هو أن جميع المتغيـرات والتوترات والصراعات التى حدثت فى المنطقة، كانت نتيجة طبيعية لعلاقات الفعـل ورد الفعـل والتنافس بيـن الغـرب والشرق للتواجد الكثيف فى المنطقة العـربية، وهى المنطقة التى تعـد الأكثـر تأثيـرا فى المعادلـة الدولية والإقليمية باعـتبارها تُمثل حجـر الزاوية لبنيان الإستراتيجيات العالمية والإقـليـمـيـة التى نشأت على مـر التاريخ، والاعـتبار الثانى هو أن التواجد السوفييتى فى البحـر المتـوسـط «قلب العالم الفعلى» يُشكل الركن الأساسى للعـقـيـدة الإستراتيجية للقوة السوفييتية Soviet Doctrine سواء لروسيا القيصـريـة أو للاتحاد السوفييتى السابق أو لروسيا وريثة القوة السوفييتية العـظمى، أما الاعـتبار الثالث فهو أن الاعتقاد فى تراجع الأهمية الجيوستراتيجية للمنطقة العربية بالنسبة للولايات المتحدة يوما ما يُعـد خطأ جسيما فى الحسابات الاستراتيجية.

ويشير الواقع إلى أن القوات الروسية حققت مكاسب عديدة فى جميع المجالات، فـقـد رسخت روسيا مكانتها الدولية سياسياً وفرضت إرادتها لتؤكد للجميع أن إيجاد الحلول المناسبة للقضايا الدولية والإقليمية المؤثرة على الأمن والسلم الدوليـيـن لابد وأن تتم من خلالها بمشاركة الولايات المتحدة، حيث تراجع نفوذها وأصبحت غـيـر قادرة على إيجاد الحلول بمفردها، وهو ما يُمثل أحد التحولات المهمة التى طرأت فى بنيان النظام الدولى الراهن، والذى يمكن إضافته إلى التحولات التى فرضتها روسيا من قبل، فقد منحت روسيا حق اللجوء السياسى لإدوارد سنودن، عـضو الأنظمة الرقمية لوكالة الأمن القومى الأمريكى «National Security Agency»، وهو ما يمثل تهديـداً مباشراً للأمن القومى الأمريكى، فقامت بتغـييـر أكواد أنظمة الوكالة بالكامل، ثـم قام أسطول المحيط الهادى الروسى بالفتح الاستراتيجى لأول مرة فى مياه البحر المتوسط الدافئة منذ عـقود خلت، وأخيرا قامت بفرض إرادتها بالتصميم عـلى بقاء الأسد ضمـن المعادلة السوريـة، وهو ما يبدو واضحا من تغـيـر الموقف الأمريكى الذى يصمم على رحيله فورا إلى التصريح بحق السوريين فى تقريـر مصيرهم.

وعلى مستوى الداخل الروسى فقد حقق التدخل الروسى فى سوريا ثلاثة أهداف، فقـد ضمن بوتين فوز جميع أعضاء حزبـه واكتسب مؤيـديـن من خارج حزبـه فى انتخابات مجلس الدوما «البرلمان الروسى» قبل أن تبدأ فى سبتمبر القادم أولاً، واكتسب قراره زخما إعلامياً واسعاً فى مواجهة محاولات الولايات المتحدة وتوابعها لتشويه صورة روسيا أمام الرأى العام العالمى ثانياً، كما استحق أن يكون بطلاً قومياً، ويحظى بلقب القائد السياسى الأكثر تأثيراً فى قياس الرأى العام العالمى ثالثاً. أما على مستوى الإقليمى للشرق الأوسط فقد ضمنت روسيا البقاء فى المياه الدفيئة فى البحر المتوسط، بعـد أن قامت بترسيخ نظام الأسد وتكريس سيطرته على أكبر مساحة من الأراضى السورية، بعـد أن مكنت قوات نظامه من إستعادة هذه الأراضى بالمعاونة الجـويـة للطائرات الروسية بما يضمن للأسـد الحفاظ على أركان ومؤسسات دولته واكتساب أرضية صلبة فى عملية التفاوض، كما قطع قرار بوتين كل السبل أمام تدخل القوى الإقليمية فى سوريا.

وقد عـبـر بوتين بنفسه عن المكاسب الكثيرة التى ربحتها روسيا عسكرياً بتصريحه بأن «اشتراك القوات الروسية فى الحرب فى سوريا يـعتبـر حصة تـدريبية مفيدة» وكأن روسيا قامت بإجراء تجربة حية لأحدث ما فى ترسانتها من أسلحة ومعدات وأجهزة فنية وذخائر وكأنها مناورة تدريبية، وقامت بإبراز القدرات الحقيقية لقواتها المسلحة خاصة قدرتها على النقل الاستراتيجى وحرية حركتها جواً وبحراً، وروجت لأسلحتها الحديثة عالمياً فى سوق السلاح العالمى.

وعلى مستوى المتغـيـرات والتحولات الإقـلـيـمـيـة الاستراتيجيـة فقد أحدث تصريح لافروف «أنه يُمكن لسوريا أن تكون دولة فيدرالية» تحولا استراتيجياً جذرياً على مستوى النسق الإقليمى، إذ أعلن أكراد سوريا أن الكيان الكردى هو أول مكونات هذه الفيدرالية وأعلنوا تشكيل الحكومة التى ستدير شئونه، ومن الطبيعى أن تقوم روسيا بدعم هذا التوجه، إذ يُعـتبر الكيان الكردى تهديدا مباشرا للأمن القومى التركى، وكأن بوتين عازم حقا على تحقيق ما أعـلنه أمام الدوما عندما صرح بأنه «واهم من يتصور أن رد روسيا سيكون مقصوراً على العـقوبات الاقتصادية، لكننا سنجعـلهم يندمون على فعـلتهم التى ارتكبوها بإسقاطهم طائرتنا».. وللحديث بقية الأسبوع القادم بإذن الله

 أستاذ العلوم السياسية ــ جامعة بورسعيد