رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الواقع العـربى.. والمتغيرات الدولية والإقليمية


رسخت روسيا مكانتها الدولية، وفرضت إرادتها لتؤكد للمجتمع الدولى أن الولايات المتحدة بمفردها غـيـر قادرة على إيجاد الحلول المناسبة للقضايا الدولية والإقليمية المؤثرة على الأمن والسلم الدوليـيـن، وأن حلول هذه القضايا لابد أن تأتى بمشاركة وريثة النفوذ والقوة السوفييتية العظمى، وفى الأسبوع المقبل بإذن الله نستكمل الإجابة عن التساؤلات المطروحة.

ذكرت فى المقال السابق أن التصريح الذى أدلى به وزيـر خارجية روسيا بأنه يمكن أن تكون سوريا دولـة فـيـدراليـة، يُشيـر إلى أن سوريا قـد أصبحت إزاء لحـظات فارقـة يُعاد فـيها رسم وصياغة خريطتها السياسية، وأن روسيا والولايات المتحدة قد توصلتا إلى إتفاق وقف إطلاق النار فى مقابل هذا التقسيم، وأن روسيا قد حصُلت على موافقة الأسد مقابل دعـمها له، وكنت أنوى أن أتناول التهديدات التى تواجه العالم العربى اليوم، إلا أن قرار الرئيس الروسى المفاجىء «بسحب قواته من سوريا بعـد أن حقـقـت أهدافها بنجاح»، إذ يُعتبر هذا القرار من أبرز المتغيرات التى تتميز بسرعة وكثافة وتراكم تفاعلاتها والتى ستُؤثر على المعادلـتـيـن الدوليــة والإقليمية والمنطقة العـربية بصورة مباشرة، الأمر الذى سيؤدى معه إلى بروز مزيد من التحديات والتهديدات الجديدة فى المنطقة، ولذلك سأتناول تأثيـرات تفاعلات هذا القرار من خلال طرح بعض التساؤلات التى تدور فى الذهن الجمعى العربى الآن ولعل أبرزها وهى، ما الأهداف التى حققتها القوات الروسية من حربها فى سوريا؟ وهل يمكن أن تسحب روسيا جميع قوتها البشرية المسلحة بأسلحتها ومعـداتها القتالية وذخائرها وأجهزتها الفـنـيـة من سوريا؟ أى هل يُمكن لعاقل أن يتصور أن تقوم روسيا بإخلاء قواعـدها فى سوريا «قاعـدة حميميم الجوية فى اللاذيقية وطرطوس البحريـة»؟

للإجابة على هذه التساؤلات ينبغى أولا توضيح بعض الاعـتبارات الرئيسية التى تتحكم فى الموقف الاستراتيجى للقوى العظمى والقوى الإقليمية غير العربية فى المنطقة، فالاعـتبار الأول: هو أن جميع المتغيرات والتوترات والصراعات التى نشأت فى المنطقة، كانت نتيجة طبيعية لعلاقات الفعـل ورد الفعـل والتنافس بيـن الغـرب والشرق للتواجد المكثف فى المنطقة العـربية، باعـتبـارها من أكثـر المناطق الإقليمية أهمية وأعمقها أثرا فى المعادلة الدولية والإقليمية، بحكم موقعها الجيوستراتيجى الفريد، وبحكم إحتوائها على أهم مسطحات ومضايق وممرات مائية، وبحكم احتوائها على المصالح المتشابكة والمتعارضة لهذه القوى، فأصبحت وما زالت تُشكل حجـر الأساس لبنيان الإستراتيجيات العالمية والإقـليـمـيـة التى نشأت على مـر التاريخ، ويشير الاعـتـبـار الثانى إلى أن التواجد السوفييتى فى البحـر المتـوسـط ذا المياه الدافـئـة طول العام، والذى يُعـتبـر قلب العالم الفعلى يُشكل الركن الرئيسى فى العـقـيـدة الاستراتيجية والعسكرية للقوة السوفييتية Soviet Doctrine سواء كان ذلك لروسيا القيصـريـة، أو للاتحاد السوفييتى السابق، أو لروسيا وريثة النفوذ والقوة السوفييتية العـظمى، وترتيبا على ذلك يخطىء من يظن وواهم من يتصور أن روسيا يمكن أن تتنازل عن سوريا أو تُخلى قواعدها التى فيها، وهو ما يبرر لنا لماذا احتفظت روسيا بحق العـودة إلى سوريا مرة أخرى فى حالة فشل المفاوضات، وعـدم التوصل إلى حل سياسى ويكون الأسد جزءا منه، وهو ما صرحت به السيدة بثينة شعبان المتحدثة الرسمية للنظام السورى وأكده بوتين، أما الاعـتبار الثالث فهو أنه من الخطأ المبين التصور بأن المنطقة العربية «المكون الرئيسى للنسق الإقليمى للشرق الأوسط» قد تراجعت أهميتها الجيوستراتيجية يوما ما بالنسبة لدى الولايات المتحدة، كما يخطىء من يتصور أن تغـييرا فى الاستراتيجية الأمريكية يُمكن أن يحدث، بل ستظل استراتيجيتها ثابتة لا تتغير حتى تحقق هدفها الرئيسى من مشروعها الذى يعمل على إعادة هيكلة وتشكيل ما يُعـرف بالشرق الأوسط الكبير، وتصحيح الحدود التى رسمها مارك سايكس وجورج بيكو، والذى يـُؤدى فى النهاية إلى تفتيت الدول العـربية المركزيـة إلى كيانات صغـيـرة وإعادة ترسيم الحدود بينها، وتوطيـن شعـوبها على أساس عرقى أو دينى أو مذهبى أو طائفى، والاعتبار الأخيـر هو ضرورة إدراك أن القوى الإقليمية غـير العـربية تسعى حثيثا وتتحيـن الفرصة لتحقيـق مشروعاتها القومية، سواء مشروع لإحياء الإمبراطورية الساسانية تحت الراية الشيعية وولاية الفقيه، أو مشروع العثمانيين الجدد لإحياء دولة الخلافة، أو مشروع حاخامات إسرائيل لاسترداد أرض الميعاد التى وهبها الرب لإبراهام، تلك هى الاعتبارات الرئيسية التى يتعين إدراكها ووضعها فى سياقها السليم عند دراسة الموقف الاستراتيجى وقبل إجراء أى حسابات استراتيجية.

أما عـن الأهداف التى حقـقتها القوات الروسية فى سوريـا، فيشير الواقع إلى أنها حققت كثيرا من المكاسب فى جميع المجالات، ففى المجال السياسى فقد رسخت روسيا مكانتها الدولية، وفرضت إرادتها لتؤكد للمجتمع الدولى أن الولايات المتحدة بمفردها غـيـر قادرة على إيجاد الحلول المناسبة للقضايا الدولية والإقليمية المؤثرة على الأمن والسلم الدوليـيـن، وأن حلول هذه القضايا لابد أن تأتى بمشاركة وريثة النفوذ والقوة السوفييتية العظمى، وفى الأسبوع المقبل بإذن الله نستكمل الإجابة عن التساؤلات المطروحة.

■ أستاذ العلوم السياسية جامعة بورسعيد