رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السيسى وشرعية التحدى


منذ أيام كنتُ فى إحدى الندوات، وكان المتحدث الرئيسى فيها هو الناقد الأدبى الكبير الدكتور شريف الجيار، وحينما تحدث عن «الشخصية المصرية» قال إن شخصية المصرى ليس لها «كتالوج» أو بالأحرى «شفرة» يستطيع أحدهم أن يفك رموزها ليسيطر عليها، وقد كان ما قاله الجيار صحيحًا، فهذا الشعب غريب حد الدهشة ومُدهش حد الغرابة! فهو ذاته الشعب الذى سخر من جمال عبدالناصر أثناء نكسة ١٩٦٧ حتى ظنت الدنيا أن المصريين سيسقطون عبدالناصر من حكم بلدهم، ثم إذا به نفس الشعب الذى غنَّى مع عبدالحليم بعد النكسة أغنيته الحزينة المشبوبة بالأمل «عدَّى النهار»!.

كنت تستطيع أن ترى دموع التحدى فى عيون المصريين وهم يسمعون عبدالحليم يختم أغنيته مغردًا: «وإحنا بلدنا للنهار بتحب موال النهار» ثم هو أيضًا نفس الشعب الذى خرج بالملايين ليمنع رئيسه من التنحى، ويطلب منه أن يقود «التحدى» ثم هو ذلك الشعب الذى خرج لتشييع بطله «المُتَحَدى» عبدالناصر فى جنازة لم يشهد التاريخ مثلها من قبل، خرج وهو يبكى، وفى ذات الآن خرج وهو يُغنى «الوداع يا جمال يا حبيب الملايين» وكانت هذه أول مرة فى التاريخ يغنى فيها شعبٌ بأكمله أغنية يكون هو فيها المطرب والكورس فى نفس الوقت، ولا أظن أن أحدًا يستطيع وصف تلك المشاهد، إذ يجب أن تكون حاضرًا فيها لتعرفها حق المعرفة وتحللها وتخرج منها بتحليل دقيق للشخصية المصرية، وقد كنتُ حاضرًا فى هذا اليوم رغم أننى حينئذ كنتُ غُلامًا يافعًا لم أبلغ مبلغ الشباب بعد، هل تعرفون لماذا أحب المصريون عبدالناصر رغم أخطائه وديكتاتوريته؟ هل تريدون معرفة لماذا غفر الشعب لعبدالناصر هزيمة ١٩٦٧؟ هل تتملككم الدهشة وأنتم ترون هذا الشعب فى كل مواقف التحدى بعد موت عبدالناصر يستحضر صورته وكلماته ويرفع صوره؟! هل تتعجبون وأنتم ترون أجيالًا جديدة لم تر عبدالناصر ولم تعرفه حق المعرفة، إلا أنها تهتف باسمه فى الملمات كأنها تستنقذ نفسها به من خطوب الدهر؟! هل تريدون معرفة لماذا لم تُمح صورة عبدالناصر من ضمير المصريين رغم التشويه الذى مارسته ضده جماعة الإخوان بدوائرها المتسعة، والتنكيل الذى لحق سُمعتَه من الطوائف السياسية اليمينية التى تضررت من قراراته الاقتصادية والسياسية؟ كل ذلك لسبب واحد، هو أن عبدالناصر كان عنوانًا للتحدى وإن أخطأ، وغيره كان عنوانًا للتراجع والخضوع وإن أصاب! فكلمة السر التى تُلهب خيال المصريين وتستنهض ملكاتهم وقدراتهم هى «التحدى».
هذا هو الإنسان المصرى، لذلك كان الرئيس عبدالفتاح السيسى عنوانًا للتحدى الذى يعشقه المصريون، فهو، شاء من شاء وأبى من أبى، ذلك القائد الذى خرج بشكل أسطورى ليقود المصريين فى أكبر تحدٍ مرت به مصر عبر تاريخها الحديث، بل أستطيع القول عبر تاريخها كله، لم يكن التحدى الذى حرَّك المصريين معه هو مواجهة ثلة من الإرهابيين، ولكنه التحدى الأكبر الذى يقود فيه الرئيس شعبه ليواجه أكبر منظومة إجرامية فى العالم تقودها دول وتحالفات وجيوش وأجهزة مخابرات تستهدف كلها القضاء على الدولة الوطنية الحديثة فى مصر، ليسهل لها بعد ذلك التهام المنطقة كلها، عرف الشعب المصرى بعمقه الحضارى إرادة التحدى لدى السيسى، وهو شعب يعشق التحدى، ولكن يبقى لنا سؤال لم نصل إلى إجابته بعد، هو لماذا يبرع المصرى وقت التحدى، وترتفع ملكاته وقدراته وقت المواجهة، ويستحضر فى ضميره عند الأزمات صور الزعماء الذين كانوا رموزًا للتحدى؟ ولماذا اعتبر المصريون الرئيس السيسى بطلًا حقيقيًا، فى حين أنه عرف ببصيرته المتقدة أن الفريق أحمد شفيق ليس على قدر تلك المواجهة؟ وأن سامى عنان لا يمكن أن يكون صاحب معركة التحدى؟ نعم لقد رأى المصريون شفيق وهو يهرب من أولى لحظات المواجهة وظل هاربًا من معركة قادها غيره، أما سامى عنان فقد كان رصيدًا حقيقيًا لأعداء مصر ضد وطنه، ويكفى أنه استعان بوسطاء الإخوان الذين هم أكبر أعوان «قوى الشر العالمية».
الآن تعالوا معى لننظر إلى تلك اللقطة التاريخية ونتأمل صورتها، انظروا، لقد خلّد المصريون سليمان الحلبى، الشاب الأزهرى الوافد من الشام، خلَّدوه لأنه قتل كليبر قائد الحملة الفرنسية، فكان الحلبى عنوانًا للتحدى، لا يهم عندنا أن يكون هذا الرمز مصريًا، المهم أنه كان مثلنا، يعشق التحدى ويُفنى حياته من أجل التحدى، وما سليمان الحلبى إلا مجرد رجل مرَّ على مصر مثله مثل الملايين التى وفدت إلى بلادنا عبر التاريخ، ولم يخلد مثله إلا من كان مثله ومثلنا فى التحدى والإرادة، هذا هو المصرى وعلى ذلك نشأ منذ آلاف السنين، والآن عودوا معى إلى التاريخ السحيق، وقت أن كان حاكم مصر «تُحتمس الثالث» الفرعون الأسطورة، ستجد أن المصريين أحبوا «تحتمس الثالث» حُبا لم ينل حاكمٌ مثله، هذا الفرعون الذى حكم مصر أكثر من خمسين عامًا وحين مات كانت جنازته أكبر جنازة شهدتها البشرية، هل تعرفون لماذا؟ لأن تحتمس كان رمزًا للتحدى فى مواجهة الغزاة وفى مواجهة كوارث الطبيعة والفيضانات، لأن تحتمس حين تحدى انكسر وانتصر، وحينما انكسر شد المصريون من أزره، وحينما انتصر هتف المصريون بحياته، وأصبح أحد التابوهات المقدسة فى ضمير المصريين لا يجوز المساس به عبر مئات السنين.
ولكن ما سبب عشق المصريين للتحدى؟! لعله المؤرخ المصرى الفذ شفيق غربال، رحمة الله عليه، هو الذى قال «النيل منبع حياتنا، ومصر ما هى إلا الأراضى الواقعة على ضفتى النهر، وليس لها من حدود إلا المدى الذى تصل إليه مياه النهر ومع ذلك فإن المصريين هم الذين خلقوا مصر، فمصر هبة المصريين» ولكننا للأسف الشديد نجهل تاريخنا ونجهل قيمة رموزنا، بل يسعى بعضنا إلى تشويههم والحط من قدرهم! نعم نحن نجهل تاريخنا، ولكن مع ذلك فإن التاريخ يعيش فينا، وفى ضمائرنا، نحن نختزن التاريخ والحضارة فى أعماقنا، ليس هذا من باب «الشوفينية» أو الاعتقاد المبالغ فيه، أو النرجسية الوطنية، ولكنها الحقيقة.
والآن ونحن نواجه تحديات غير مسبوقة، ونقود معاركنا ليبقى الوطن، ليس لنا إلا أن نستشعر كشعب ما يواجهه الوطن، ولا يمكن أن نُفرِّط فى اتحاد كلمتنا ووحدة أراضينا، قضيتنا الآن هى مصر، والرجل الذى قاد معركة التحدى منذ أول لحظة هو الذى يطلب أن تتحد جبهتنا الداخلية، لا وقت الآن للخلافات، يجب أن يخرج الشعب فى معركة التحدى عن بكرة أبيه ليشارك فى الانتخابات، فنحن لا نبحث عن شرعية «الانتخابات» أو «شرعية الرئيس»، ولكننا يجب أن نعطى الرئيس عبدالفتاح السيسى «شرعية التحدى» ولن يكون هذا إلا بالملايين من الناخبين.