جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

متى تجد كل صناعة «بدرانها»؟


فى بداية التسعينيات، وفى مكتب الدكتور على السلمى، نائب رئيس جامعة القاهرة «آنئذ»، قام بتسليم مدير مكتبه ملفاً قائلاً «يا إسماعيل الملف ده تسلمه للدكتور إبراهيم بدران وفيه كشف بأسماء الطلبة والطالبات اللى رشحتهم الجامعة للعلاج فى مستشفى الدكتور بدران.. انت عارف د. بدران بيبعت كل فترة يطلب حالات لعلاجها على نفقته الشخصية» رحل عن عالمنا الطبيب الجراحوالمثقف والمفكر النبيل الدكتور إبراهيم بدران، والذى لم يفارق مشرط الجراح يده، «الجراح المصرى» لم يمنعه تقدم العمر من ممارسة مهنته التى عشقها، فالمشرط -كما يقول- لم ولن ولا يفارق يده طالما بداخله النفس وهناك مريض بحاجة إليه الدكتور إبراهيم جميل بدران، وزير الصحة الأسبق، فى الزمان البعيد، كان التحاق بدران بكلية الطب مصادفة ونزولاً على رغبة والده - ضابط البوليس- بعدما نشأ الابن فى خدمة والده إثر إصابته بالشلل، كان هو آخر العنقود بين 12 شقيقاً، توفى منهم 6، وقد حكى قصة مرض والده فكانت نتيجة لتأثره بوفاة اثنين من أصدقائه فى يوم واحد «بولس باشا حنا، ومحمود باشا حافظ رمضان»، دفنهما وعاد يبكى.. فنام واستيقظ مشلولاً.

د. بدران ظل طوال حياته المهنية يعطى المثل والقدوة فى التعاطف مع مرضاه «أنا بأموت مع المريض.. والله ما مريض مات إلا ومت معاه مبرئاً المستشفيات ووزارة الصحة من الانتهاكات الكثيرة فى حق الأطباء، بحجة أن «الإمكانيات على قد القد»، يقول: لا أستطيع لوم الصحة، وبالعكس أنا فخور بها جداً.. لأن متوسط عمر الإنسان المصرى فى عام 1930 كان 28 سنة، دلوقتى الراجل 70 والست 73 سنة.. يبقى مين عمل ده.. النحاس باشا أم الأطباء؟.. فى لقاء تليفزيونى كانت دموعه تلازم أوجاعه عن مصر، ذكر واقعة آلمت قلبه، وجعلته يختم حديثه مجهشاً بالبكاء، قال فيها: «أنا مرة كنت فى عرفات.. وسمعت سيدة مصرية أصيلة تتحدث لربنا قائلة «يا رب اجعل عمرى على قد صحتى عشان ما اشحتش».. بردو هى دى مصر.. أمنية شعبها أن يموت قبل أن يمرض!!

فى مقال شهير للكاتب الصحفى أحمد بهاء الدين بجريدة الأهرام نُشر بتاريخ 9/4/1978 تحت عنوان «قنبلة الدكتور بدران والحملة المدبرة على القطاع العام» أشار فيه لإعلان الدكتور إبراهيم بدران، وزير الصحة آنذاك، إلى أن بعض مستوردى الأدوية من ضعاف النفوس حاولوا رشوته ثلاث مرات، وأنهم استخدموا التزوير فى الحصول على مكاسب بلغت ثمانية ملايين جنيه، وأنه قرر إحالتهم للنيابة، وأضاف الوزير أن المستوردين يكسبون مليون جنيه فى الصفقة الواحدة باللجوء إلى التزوير فى مقابل مائة ألف جنيه لو التزم بنسب الربح المحددة.. ويستعرض الكاتب الفذ بحرفيته الصحفية المعهودة مشاكل القطاع العام فى تلك الفترة وكذلك أحوال القطاع الخاص، وينهى مقاله قائلاً «نتمنى من الله أن تجد كل صناعة عامة أو خاصة، بدرانها، كما وجدته صناعة الدواء».. ده كلام الرائع أحمد بهاء الدين أهديه لكل مسئول حكومى، ونحن نحارب الفساد.. رحم الله الدكتور إبراهيم بدران العالم والطبيب الذى كان يردد «أنا لا أدخل غرفة العمليات إلا عندما استشعر رضا الله وأستلهم عونه عبر الصلاة».