جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الحج فى ذاكرةمصر..تقاليد وطقوس متوارثةمن عهد الفراعنة


تحظى فريضة الحج وما يتعلق بعملية أدائها باهتمام خاص ومتميز في الموروث الشعبي المصري، و تأتى تلك الأهمية من مصادر عديدة يأتي في مقدمتها سمة القدسية التي ترتبط بها تلك الفريضة وللمصريين عادات وتقاليد لا تتغير خلال موسم الحج، تشترك فيها المدن المصرية جميعًا و خاصة فى الصعيد .

تبدأ تلك العادات و التقاليد فور سماع الحاج لخبر فوزه فى قرعة الحج أو تلقيه تأشيرة الدعوة لأداء الفريضة بتحول منزل الحاج إلى مزار لجيرانه وأقاربه واهالى قريته الذين يفدون لتهنئته وتستمر الأفراح والغناء بالدفوف والزغاريد فى كل يوم داخل منزل الحاج حتى حلول موعد سفره للأراضى الحجازية .

وتتواكب مع تلك الأفراح استعدادات الحاج للرحلة النورانية بتجهيز ملابس الحج وإعداد الأطعمة التي اعتاد الحجاج على أخذها معهم وجميعها أطعمة ريفية جافة لاتتلف بالسفر أو طول المدة مثل " الدقة " المصنوعة من السمسم المحمص و" الملوخية اليابسة " و" القرقوش " – اى الخبز الشمسي المحمص – والجبن القريش ويحرص كل حاج على إقامة احتفالية دينية يتلى فيها القران وينشد المنشدون ويختلف موعد تلك الاحتفالية من قرية لأخرى فالبعض يقيما فى الليلة السابقة لسفره والبعض يقيمها فى الليلة السابعة بعد عودته من أداء المناسك فيما يسمى بليلة السابع  ولوداع الحاج طقوس ومراسم بعضها قديم وبعضها حديث ومن العادات المتوارثة عند وداع الحاج أولها الغناء له فى زفة تشبه زفة عريس لعروسه.

وقد حفظ التراث الشفاهى المصري عشرات الاغانى والأناشيد التي يشدوا بها الناس عند وداع واستقبال كل حاج وكما تقول الباحثة المصرية امانى على فان صعيد مصر مثال حي على ذلك، فهو بيئة غنية وثرية نشأ فيها محفوظ أدبي وإنشادي كبير وضخم وما يزال موجودا حتى هذه اللحظة ويتزايد علي يد أبنائه من رجال ونساء كمكون شعبي لتقاليدهم وتراثهم يعكس فرحهم وشوقهم لرحلة الحج.

فعمق الفرحة التي تغمر قلوب من كتب الله لهم الحج وأهاليهم تنعكس على أناشيدهم التي تعكس حنينا وفرحا وشوقا يصعب وصفه من جهة، وحزنا وأملا من جهة أخرى ممن لم يتمكنوا من أداء الفريضة فالأناشيد الخاصة بوداع الحجاج كما يلحظها المتابع تتميز بالحزن والتشوق والأسى، وهذا ظهر في تناول الكثير من المحترفين من أهل الصوفية الذين أنشدوا للحج معبرين عن شوقهم وحنينهم وعدم قدرتهم على الذهاب للحج مثل قول احدهم :

يا راحلين إلى منى بقيادي *** شوقتمو يوم فؤادي

سرتم وسار دليلكم يا وحشتي *** والشوق أقلقني وصوت الحادي

ويكمل قصيدته موصيًا حجاج القافلة بتوصيل سلامه للرسول عليه الصلاة والسلام:

مني السلام مع التحية بلغو *** شوقي الشديد للنبي الهادي

ثم الصلاة مع السلام مضاعفا *** وكذا التحية للنبي الهادي

كما لم يقتصر دور التراث الشعبي على مثل هذه القصائد التي أنشدها المتصوفون، فقد اشتهرت النساء بكثير من الأناشيد وتحديدا في بيوت الحجاج، وتحديدا في مناطق الصعيد المصري، حيث يأخذن بالنشيد والغناء في أثناء إعداد المئونة من خبز وطعام يكفي القافلة في أثناء رحلتها طريق البر أو البحر، وهو نشيد يغلب عليه وصف الحجاج وزيهم أكثر من الحزن والأسى والشوق:

طرف شال الحجيج *** أبيض من العلامة

وأبيض من لبن الحليب *** يا حاج يوم السلامة

طرف شال الحجيج *** أبيض من القلوع

وأبيض من لبن الحليب *** يا حاج يوم الرجوع

ونجد معظم الأحياء الشعبية التي يوجد بها حاج ، قد تزينت جدرانها برسومات الجمل والكعبة وغيرها من الرسومات المعبرة عن هذا الحدث الجليل، كما يحرص الكثير من المصريين علي مجاملة جيرانهم عند عودتهم من الحج ، وزيارتهم وتقديم الحلوى والشربات تعبيرا عن فرحتهم بعودتهم سالمين . ويحظى الحاج عقب عودته بمعاملة خاصة وسط مجتمعه  فهناك أكبر قدر من درجات التوقير باعتباره (الحاج) أقرب واحد من أفراد المجتمع حداثة ببيت الله وبزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكسبه ذلك التقديم على غيره في المحافل والمناسبات الاجتماعية احتراما له وتيمنا بقدسية الحرمين الشريفين. ويكون النداء دائما له مسبوقا بلقب "الحاج" ، ويعدّ هذا اللقب جزءا أصيلا من هويته .

وتعد الرسومات والكتابات الجدارية التي تتُزين بها بيوت الحجاج من مظاهر الابتهاج بالحاج والترحيب والتهنئة بسلامة وصوله.

كما تتخذ كوسيلة للإعلان عن قيام صاحب الدار بأداء تلك الفريضة . وتخليد الذكرى أدائهم لمناسك الحج – ينشط عدد كبير من الفنانين المصريين –  معظمهم فنانين تلقائيين – فى رسم مايعرف برسوم أو جداريات الحج وهى الفريضة التي تتميز بطابع خاص فى صعيد مصر وتكون موسما لازدهار سوق الرسامين والمغنيين الشعبيين ، حيث تستعين أسرة الحاج او الحاجة قبل أيام من عودتهم من الار ا ضى السعودية برسام يصور على جدران المنزل وواجهته ذلك الحاج أو تلك الحاجة وهى تؤدى الشعار وتطوف حول الكعبة وتصلى فى الروضة النبوية الشريفة او وهى تصعد إلى الباخرة أو الطائرة وتهبط منها مع بعض الآيات القرآنية والنصوص النبوية الشريفة ، والطيب محمد النجار وإبراهيم أبو عبد العزيز ومحمد أبو عباس .

الفنان الدكتور/ عمار أبو بكر المدرس المساعد فى كلية الفنون الجميلة بالأقصر قال إن فن جداريات الحج له جذور فرعونية هي تلك الرسوم والنقوش الدينية التي تنتشر فى المقابر والمعابد المصرية القديمة بجانب عثور علماء المصريات على العديد من الأدلة الأثرية التي تؤكد وجود نقوش على جدران بعض المنازل وذلك على غرار الرسوم التي تزين واجهات منازل سكان النوبة فى أسوان . أما أول رصد لرسوم وجداريات الحج فى العصر الحديث فكان على يد بعض الرحالة الأجانب الذين زاروا مصر فى نهاية القرن التاسع عشر.

وأشار إلى أن جداريات الحج كان بدايتها عبارة عن كتابات بخط بارز تعلن عن أداء صاح البيت أو احد أفراده لفريضة الحج ثم تطور الأمر إلى أن أصبح فنا وظاهرة شعبية تلفت أنظار الباحثين الأجانب أمثال آن باركر وافون نيل اللذين أصدروا كتابا وثائقيا حول تسجيلا للعشرات من جداريات الحج فى صعيد مصر . ويطالب الطيب النجار بمشروع وطني مصري لتسجيل وتوثيق جداريات الحج ورسوماته المعرضة للزوال ودراستها كظاهرة فنية شعبية وتقديم الدعم والرعاية الفنية لفناني جداريات ورسوم الحج .