جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

"درنة" المنكوبة تستغيث .. و"السيسى" مسافة السكة


غضب الطبيعة أم غضب المناخ والجغرافيا معًا، أم أن عبث البشرية الذي تسبب في ارتفاع درجة حرارة الكوكب يدفع ثمنه من لا ذنب لهم؟.. المدينة المروحية "درنة" المحصورة بين الجبل الأخضر جنوبا والبحر الأبيض شمالا، مدينة جرفتها السيول وألقت بها في البحر دون رحمة من  الطبيعة التي لم تكترث بأطفال أو نساء أو شيوخ.. الأحد الماضي والناس نيام اجتاح إعصار "دانيال" المدينة الهادئة، فأي كابوس أو حلم لم يستيقظ بعده الآلاف من سكان المدينة الآمنة، إما أنهم غرقا أو تحت جدارن بيوتهم التي احتضنتهم بات مثواهم الأخير.. اليم أعلن براءته من ذنب هؤلاء فأعاد قذفهم إلى الشاطئ مرة أخرى لعل من يعثر عليهم، أو تصل إليهم الغواصة وجماعات الإغاثة حتى تواري الجثامين الثرى من أن تأكلهم حيتان البحر.. البحث مستمر عن الضحايا؛ لعل هناك من هم على قيد الحياة.
قدرت السلطات الليبية عدد الضحايا بنحو 20 ألفا من متوفين ومفقودين هم في عداد الموتي، أسر بأكملها فقدت لم يعد لها ذكر إلا في الأوراق الثبوتية، ضحايا إعصار كان متوقعًا، ولم ينتبه له أحد من المسئولين، هذه هي الكارثة الحقيقية أن ينشغل السياسيون بخلافاتهم دون الاهتمام برعايتهم، وكما أعلنت الأمم المتحدة- في تصريح لها م- "كان من الممكن تفادي قتل معظم الضحايا جراء الفيظانات في ليبيا".. نعم إنها جريمة قتل جماعية، وكارثة وحدث جلل يجب أن يحاسب عنه من تسبب في الإهمال في ظل وضع فوضوي يصعب التعامل معه.
تقول الجغرافيا إن مدينة “درنة” الواقعة على الشريط الساحلي الشمالي الشرقي لليبيا. يحدها من الشمال البحر الأبيض ومن الجنوب سلسلة من تلال الجبل الأخضر في شكل مروحي.. يمر بها  مجري وادي درنة وهو أحد الأودية الكبيرة المعروفة في ليبيا، إنها مدينة جميلة بديعة المنظر تكسوها الخضرة، وتعتمد في زراعتها علي مياه الأمطار الغزيرة التي تسقط على تلال الجبل الأخضر وتشكل مجرى وادي درنة.
أما التاريخ فيخبرنا أن "درنة" تعرّضت في السابق لسلسلة من الفيضانات، بما في ذلك في الأعوام 1941 و1959 و1968. لكن فيضان عام 1959 كان الأشد وقعاً على المدينة. في أعقاب ذلك، أشارت دراسات في ستينيات القرن الماضي إلى أنه ينبغي بناء السدود لحماية المدينة من الفيضانات.. وتأتي الرياح بما لا تشتهي السفن وتعرضت المدينة لفيضانات شديدة، لكنها ليست بقوة "دانيال".. وبني السدان بقلب من طين ولم تهتم الحكومات المتعاقبة بإعادة بناء السدين.. واستكمالا للأبحات العلمية، نشرت جامعة سبها الليبية العام الماضي بحثًا، أشارت فيه إلى أن هناك احتمالات لانهيار السدود في درنة، كما أكد التقرير أن المنطقة معرضة لخطر الفيضانات.. لذلك يجب اتخاذ إجراءات فورية للصيانة الروتينية للسدود، لأنه في حال حدوث فيضان كبير، ستكون العواقب وخيمة على سكان الوادي والمدينة".. هكذا كانت التحذيرات ولم يهتم أحد بخطورة الموقف.
رائحة الجثث تفوح في المكان تنذر بكارثة بيئية بعد تلوث مياه الشرب ومخاوف من انتشار الأوبئة، ولا تزال عمليات البحث عن أحياء مستمرة.. والبعض يطرح سؤاله في ظل الصراع السياسي بين الشرق والغرب من يحاسب من؟ الحكومة المكلفة من البرلمان والتي تحكم من الشرق الليبي؟ أم حكومة طرابلس المنتهية ولايتها؟.. في ظل مطالبة المجتمع المدني الليبي  جاء قرار النائب العام بفتح تحقيق عاجل موسع تحت إشراف دولي ومحاسبة كل من كان له صلة بالكارثة، ولاسيما أن تصريحات المسئولين تؤكد أن عمدة "درنة" حصل على 4 ملايين دينار ليبي للإنفاق على البنية التحيتة.. كما أن رئيس الوزراء المنتهي ولايته عبدالحميد الدبيبة اعترف في احتماع مع حكومته لبحث أمر كارثة "درنة" وقال: إن سبب انهيار السدود عدم إجراءات الصيانة لها نتيجة الخلافات السياسية والحروب بين القبائل، فضلًا عن إهدار الأموال طوال السنوات الماضية، وكان يجب على المسئولين في "درنة" الاهتمام بوضع السدود.
أول تلبية لاستغاثة "درنة" استجابة مصر- مسافة السكة- كعهدها مع كل الأزمات العالمية، فالجار أولى بالشفعة، جاء القرار الحكيم من الرئيس عبدالفتاح السيسي بأن أصدر تعليمات للقوات المسلحة المصرية والعناصر المتجهة لليبيا ببذل أقصى جهد للتخفيف من آثار الكارثة الإنسانية، كما أمر بتجهيز حاملة الطائرات المصرية الميسترال للعمل كمستشفى ميداني، لعدم تحميل الشعب الليبي أي أعباء، إضافة إلى إقامة معسكرات إيواء بالمنطقة الغربية العسكرية للمتضررين من الأشقاء الليبيين الذين فقدوا ديارهم.
الحكومات العربية قدمت ما لديها من مساعدات، كذلك المجتمع الدولي تحرك تجاه موقع النكبة، كل بما لديه من خبرة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فالحدث جلل بدأ ولم ينته بعد، يحتاج لتقديم الكثير، لاسيما أن السلطات الليبية باعترافها ليست لديها الخبرة الكافية في مواجهة هذه الكارثة التي شردت نحو 130 ألف نسمة.. وما تقدمه حكومات عربية ودولية لليبيا الشقيقة  يأتي في إطار بنود ميثاق الأمم المتحدة والواجب الإنساني وليس فضلا ولا مننا من أحد، إنما حق الشعوب على الشعوب.
لايزال البحث مستمرًا عن أحياء.. وأسئلة تطرحها تداعيات عاصفة "دانيال" هل ستنجح الكارثة في إعادة لحمة الشعب الليبي تحت راية سيادية موحده؟.. هل تعيد نكبة "درنة" الروح الوطنية ولحمتها بعيدًا عن النزعة القبلية وتجاوز الخلافات، والإصرار على إعادة بناء سلطة وطنية موحدة ليعمل الجميع معًا في مواجهة البلاد هذه الكارثة.. كل هذه الأسئلة يجيب عنها الشعب الليبي صاحب وصانع القرار بعيدًا عن أي وصاية أو تدخل من الآخر.. كما لا يفوتنا أن نقدم خالص التعازي للشعب الليبي عامة وسكان "درنة" خاصة.